أرشيف المقالات

من البيوع المنهي عنها .. البيوع البطالة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
من البيوع المنهي عنها
البيوع البطالة

هناك صور من البيوع نهى الشارع عنها لخلل فيها أو لأمر اقترن بها، وقبل أن نلج في هذا الموضوع لابد من الإشارة إلى أن العقود تنقسم من حيث استيفاء الأركان والشروط أو عدم ذلك إلى صحيح وغير صحيح (يشمل الباطل والفاسد) هذا عند جمهور العلماء.
 
أما عند الأحناف فتنقسم العقود عندهم إلى صحيح وباطل وفاسد[1].
 
ومرجع الخلاف في هذا إلى مسألة أصولية مشهورة هي: هل النهي يقتضي الفساد مع الإثم، أم أن النهي يقتضي إيجاب الإثم فقط مع اعتبار صحة العقد؟

وأيضًا: هل يستوي النهي المتعلق بركن من أركان العقد مع النهي المتعلق بشرط أو بوصف عارض للعقد؟...
 
قال الجمهور: إن نهي الشارع عن عقد يقتضي بطلانه وعدم اعتباره أصلًا مع إثم من يقوم عليه، ولا فرق بين النهي عن ركن أو وصف عارض للعقد؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)) مسلم.
 
وقال الحنفية: إن النهي المتعلق بالأركان يوجب البطلان، والنهي المتعلق بوصف عارض فهو يوجب فساد العقد فقط مراعاة لمصالح العباد.
 
ثمرة الخلاف:
صحة التمليك في البيوع الفاسدة عند الحنفية مع الإثم، وعدم صحة التمليك في البيوع الفاسدة عند الجمهور.
 
وبذلك نستطيع التمييز بين البيع الباطل والفاسد على رأي الحنفية بما يلي:
1- البيع الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، مثل انتفاء أهلية العاقد، أو فساد المعقود أو فساد صيغة العقد.
 
2- البيع الفاسد: هو ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه، كأن يصدر البيع من أهل له في محل قابل للبيع بصيغة مقبولة لكن عرض له أمر أو وصف غير مشروع مثل الجهالة ونحوها.
 
البيوع البطالة:
1- بيع المعدوم: وذلك كبيع اللبن في الضرع قبل أن يُحلب، والصوف على ظهر الدابة قبل أن يُجز –أي يقص-، وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع الحمل: وسبب البطلان هنا في المعقود عليه وهو المبيع، فالثمر قبل بدو صلاحه –أي نضجه- لا يعرف كما سيكون مقداره، وهل سينضج أم لا...
 
وللأحاديث الواردة في النهي عن مثل هذه البيوع، مثل ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع ثمر حتى يُطعم، أو صوف على ظهر، أو لبن في ضرع، أو سمن في لبن" أخرجه الدارقطني.
 
ولقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم انعقاد بيع المعدوم.
 
2- بيع معجوز التسليم: كبيع الشارد، والمتوحش، والآبق، والمغصوب، والسمك في الماء: لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن شراء العبد الآبق - أحمد -،ولاختلال الركن المتعلق بالمبيع، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر)) رواه أحمد.
 
والمذاهب الأربعة متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه مع الخلاف في بعض القيود.
 
3- البيوع التي فيها معنى المقامرة والغرر: وهي بيوع إما فيها جهالة بالمبيع أو وجود عيب باطن في مال ظاهره سليم، وهذا النوع من البيوع متفق على بطلانه؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وبيع الغرر.
مسلم.
 
وقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة والمنابذة في البيع" وقد جاء تفسيرهما عن راوي الحديث إذ قال: والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر إليه بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض.
 
ومثله بيع المزابنة وهو بيع الرطب على النخل بثمر تخمينًا، وكذا بيع العنب على الكرمة؛ لحديث: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة والمحاقلة.
متفق عليه.
 
والمحاقلة: بيع الحنطة في سنبلها بحنطة تقدر تخمينًا لما في ذلك من الربا...
واستثنت السنة النبوية العرايا فيما دون خمسة أوسق للحاجة إليه بشرط التقابض في المجلس.
 
بيع العرايا:
لغة: العرايا جمع عرية وهي النخلة المعراة حيث أكل ما عليها.
 
اصطلاحًا: بيع العرايا: هو بيع الرطب على النخل بثمر في الأرض كيلًا، وأن يكون القبض في المجلس.
 
وألحق به الشافعية بيع العنب بالزبيب، وألحق به المالكية كل ما ييبس ويدخر كالجزر واللوز والتين، وقصره الحنابلة على التمر كما هو لفظ الحديث.
 
ملاحظة مهمة: ويستثنى من بيع الغرر أمران[2]:
أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعًا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه كأساس الدار الذي يُباع تبعًا للبناء، فهذه يجوز بيعها للغرر اليسير أو الغرر الذي تدعو الضرورة إليه.
 
والثاني: ما يتسامح فيه الناس عادة إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه مثل الجبة المحشوة قطنًا والجوز واللوز والبازلاء في قشرها.
 
4- بيع الدين بالدين مؤجلًا: وهذا ممنوع بالإجماع؛ ولحديث نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ -الدارقطني-: وهو أن يكون -مثلًا- لشخص دين على آخر، ولثالث دين على الأول، فيبيع أحد الدائنين دينه من الآخر بالدين الذي له على الثالث، وهناك اختلاف بين العلماء في تفسير بيع الدين بالدين يرجع إليه في مظانه.
 
5- بيع النجس والمتنجس: وهذا باطل عند الجمهور[3]؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام))، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يُطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟، فقال: ((لا، هو حرام))، ثم قال: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) أخرجه الستة.
 
قال - صلى الله عليه وسلم - في الخمر: ((إن الذي حرمها حرم بيعها)) مسلم.، وأيضًا نهى - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
أخرجه الستة.
 
وخالف في ذلك الأحناف وقالوا[4]: لا بأس ببيع السرقين أو السرجين وهو الزبل وبعر الحيوانات لأنه منتفع به، وكذلك الكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر، وقالوا: يصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة به في غير المسجد.
والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعًا فإن بيعه يجوز؛ لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان بدليل قوله -تعالى-: ﴿ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].
 
6- بيع الماء: الماء مشاع لجميع الناس مثل مياه البحار والأودية، أو مشاع لعدد محدد من الناس كعين في قرية وهكذا..؛ لحديث: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار)) -أحمد وأبو داود-، أما الماء المحرز فقد اتفق العلماء على استحباب بذله بغير ثمن وقد يُجبر صاحبه على بذله في بعض الحالات كمن اشتد به العطش فخشي الهلاك.
 
أما من حيث بيع الماء فقد أجاز الجمهور[5] بيع المحرز واستدلوا بحديث: ((من يشتري بئر رومة فيوسع بها على المسلمين وله الجنة))، ولقد اشتراه عثمان -رضي الله عنه-، وكان يهودي يملكها ويبيع ماءها للمسلمين -البخاري-، وقال الظاهرية: لا يحل بيع الماء مطلقًا[6]، وقال الإمام أحمد: "لا يُعجبني بيع الماء البتة"، واستدلوا بحديث: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء.
أحمد وغيره.



[1] راجع ما كتبناه في مبحث العقد في الوحدة السابقة.


[2] انظر: المجموع (9/280)، نيل الأوطار (3/76).


[3] حاشية الدسوقي (3/10)، القوانين الفقهية (226)، المهذب (1/261)، مغني المحتاج (4/211)، المغني (4/251).


[4] بدائع الصنائع (5/142)، فتح القدير (5/188).


[5] بدائع الصنائع (5/146)، القوانين الفقهية (239)، المجموع (9/278).


[6] بدائع الصنائع (5/142)، المحلى (9/8).

شارك الخبر

المرئيات-١