عنوان الفتوى : هل يكفر إذا جلس في مجلس وسمع آيات الله يستهزأ بها ولم ينكر ؟
جاء في "منهاج السنة" : " في قوله تعالى (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم ، وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه ، وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم ، يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه ، كقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ ) والكفر لا يعفى عنه ، فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله ، أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك " فكيف يمكن التوفيق بين هذا الكلام وبين ماجاء "المجموع" ( 30/213) : قال تعالى: [وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم] فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل. ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب. وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها. فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) " ؟ وهل من شهدها لحاجة أو إكراه هل يمكن وصفه بالعاصي ؟ وهل يدل ذلك على أن شيخ الإسلام لا يكفر من حضر مثل هذا المجلس ما دام منكرا بقلبه ؟
الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا النساء/140 .
وهذه المماثلة: ليست مماثلة من كل وجه، وإنما هي مماثلة في المعصية والمخالفة، ولا تقتضي الكفر إلا إن حصل رضا به، أو مشاركة فيه.
وهذا الذي عليه جمهور المفسرين، كابن جرير وابن عطية، والسمعاني، وابن الجوزي وغيرهم ، رحمهم الله.
ونحن نسوق أقوالهم هنا ، لأهمية هذه المسألة.
قال ابن جرير رحمه الله: " وقوله: (إنكم إذًا مثلهم)، يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها ، وأنتم تسمعون: فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله.
فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه" انتهى من "تفسير الطبري" (9/ 320).
وقال ابن عطية رحمه الله: " وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالَسوا، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر. فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم؟ فحمل عليه الأدب، وقرأ هذه الآية (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ).
وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شَبَهٍ بحكم الظاهر من المقارنة.
وهذا المعنى كقول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي" انتهى من "المحرر الوجيز" (2/ 125).
وقال السمعاني: " نهى عَن الْقعُود مَعَهم، وَمَا حكم الْقعُود مَعَهم؟
أما إِذا قعد مَعَهم ... ورضى بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَهُوَ كَافِر مثلهم، وَهُوَ معنى قَوْله: إِنَّكُم إِذا مثلهم. وَإِن قعد، وَلم يرض بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَالْأولى أَن لَا يقْعد، وَلَكِن لَو قعد كَارِهًا، فَلَا يكفر" انتهى من "تفسير السمعاني" (1/ 492).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: " والمعنى: إِذا سمعتم الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر، والاستهزاء.
إِنَّكُمْ إِن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم مِثْلُهُمْ، وفي ماذا تقع المماثلة فيه، قولان:
أحدهما: في العصيان. والثاني: في الرضى بحالهم، لأن مُجالس الكافر غير كافر.
وقد نبّهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة" انتهى من "زاد المسير" (1/ 487).
ومن المفسرين من قيد الكفر بالرضى، وهذا موافق لما تقدم.
قال البغوي في تفسيره (2/ 301): " إنكم إذا مثلهم أي: إن قعدتم عندهم ، وهم يخوضون ويستهزئون ، ورضيتم به : فأنتم كفار مثلهم، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة" انتهى.
ثانيا:
إذا تبين هذا فإن كلام شيخ الإسلام موافق للجمهور، وهو صريح في أن المجالسة دون إنكار ليست كفرا.
قال رحمه الله في "الصارم المسلول"، ص465 –وليس في منهاج السنة-: " الوجه الثاني: أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم، وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم.
يحقق هذا : أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب ، وإن لم يتب صاحبه ، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) والكفر لا يعفى عنه، فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية، لا كافرة، إما بسماع الكفر دون إنكاره، والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا، أو غير ذلك" انتهى.
ولا تعارض بين هذا وبين قوله في "مجموع الفتاوى" (30/ 212): " أن المحرم هو الاستماع لا السماع، فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه؛ بل كان مجتازا بطريق، فسمع ذلك: لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين.
ولو جلس واستمع إلى ذلك ، ولم ينكره لا بقلبه ، ولا بلسانه ولا يده: كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون وقال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم .
فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل. ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب.
وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها ، كان كمن غاب عنها . ومن غاب عنها ورضيها ، كان كمن شهدها.
فإذا شهدها لحاجة ، أو لإكراه : أنكرها بقلبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" انتهى.
فليس في كلامه أن المماثلة من كل وجه، وإنما القاعد المستمع بمنزلة الفاعل، أي في الإثم والمعصية.
ومن جلس مكرها ، وأنكر بقلبه : لم يأثم.
ومن جلس لحاجة، وأنكر بقلبه، فقد يرتفع عنه الإثم بحسب الحاجة، كمن يركب المواصلات العامة التي فيها الموسيقى، لحاجته لركوبها، فلا إثم عليه، وينبغي أن يشغل نفسه بما يصرفه عن الاستماع لها.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |