عنوان الفتوى : حكم الحضانة إذا تزوجت الحاضنة وسافرت بعيدا عن أبي المحضونين
شيوخي الكرام، أرفع إليكم بعد الله شكواي: أنا سيدة في الأربعين من عمري، من دمشق، طلقني زوجي منذ ثلاث سنوات تقريبًا دون وجود أية علة تقضي بطلاقي حسب أقوال المحكم الشرعي ومحامي الخلع وشهود الطلاق، إنما الأسباب واهية بالنسبة لهذا الوقت العصيب الذي تمر فيه بلادنا، تركني طليقي مع ثلاثة أولاد (بنتين وصبي)، كانت أعمارهم حينذاك سبع سنوات، وخمس سنوات، والصغير حوالي ستة أشهر. عندي بيت ملك يأويني -والحمد لله- كنت قد ورثته عن أبي، لكني ليس لي رجل محرم واحد يساعدني في أي شيء؛ إذ ليس لدي أخوة صبيان، وكل من في العائلة ليسوا من المحارم، بل من الأقرباء البعيدين والمشغولين بأمور عائلاتهم. تركني أبو الأولاد دون أن يكون معي ليرة أنفقها على أولاده، وكان وما زال يرمي لي كل أول شهر 15 ألف ليرة سورية شهريًّا (أي ما يعادل 50 دولارًا تقريبًا) لا تكفيني سوى ثلاثة أيام، وأحيانًا أقل عندما أحتاج أن أشتري ملابس لأطفالي. عرضت منزلي للبيع، واستمر الوسطاء العقاريون بالقدوم لمنزلي لرؤيته مع الزبائن أكثر من سنة دون أن ينجحوا في بيعه، كنت في تلك الآونة أبيع مجوهراتي الواحدة تلو الأخرى لأعيش مع أطفالي، ناهيكم عن ظروف الحرب القاسية المخيفة؛ إذ إنني أسكن بالقرب من مطار المزة العسكري، عانيت كثيرًا مع أولادي، وعند ما تبقى لدي قطعة مجوهرات واحدة فقط تقدم لخطبتي عن طريق قريبة لي تسكن في أمريكا رجل ذو خلق ودين وعلم مصري يحمل الجنسية الأمريكية، ليس لديه أولاد؛ لأنه غير قادر على الإنجاب، وبعد التعارف والاطمئنان إلى بعضنا اشترطت عليه أن يقبلني مع أولادي وأن ينفق عليهم، فأبدى الرغبة الكاملة بذلك مع الحب الكبير لهم، وكتبنا الكتاب، ومنذ ذلك الوقت وهو ينفق علينا بسخاء، ويغدق علينا المحبة أيضًا. أخفيت عن الناس زواجي كي لا تسحب الحضانة مني، وأوهمت أهل أولادي أنني حصلت على عمل في أمريكا، وهو السبب بانتعاشي المادي المفاجئ، وأخبرتهم أنه عليّ أن أسافر حينما تجهز الفيزا، وطلبت أن أصطحب أولادي معي، لم يوافق أبوهم، قلت له -صادقة- أنني سأسعى لإيجاد عمل له هناك ليكون بالقرب من أبنائه، قال لي إنه لن يوافق إلا حينما يرى الفيزا بأم عينيه. أبو أولادي خطب فور الطلاق امرأة فقيرة قبلت به رغم عسر حاله؛ لأن حالها أكثر منه عسرة، بالإضافة إلى صفاتها الشكلية المتواضعة، وهو ليس عنده بيت يأويه، إنما يقطن في بيت والده، منذ أيام أعلمني أخوه أنه استدان نقودًا ليستطيع أن يستأجر منزلًا كي يتزوج، لكنه سيدفع الإيجار شهرًا شهرًا (أي ربما لا يتوفر معه إيجار الأشهر القادمة). والله العظيم إني تذللت ذلًّا عظيمًا لطليقي كي يبقيني على ذمته من أجل أولادي، لكنه رفض بكل بشاعة، وقضيت أيامًا سوداء مليئة بالرعب مع أولادي أعاني ويلات الحرب والغلاء، وتجمد نقودي في منزل لا أستطيع الاستفادة منه. علمًا بأن كل الناس من حولي حينذاك كانوا ينصحونني بعدم بيعه؛ لأن أحوال سوريا كما تعلمون مميتة، وإن بعت منزلي وعلم أي سارق بوجود نقود معي فعمليات القتل والسرقة وخطف الأطفال هي الاحتمال الأكبر الذي قد ينتظرني، خصوصًا أني أسكن وحدي، ومع ذلك توكلت على الله وعرضت منزلي للبيع حينها لكنه لم يبع. الحل الوحيد الذي ساقه الله لي لأعيش هو ذلك الزوج الشريف النقي، ماذا أفعل؟ كيف أترك أولادي وهم فلذة كبدي وأسافر؟ كيف أتركهم لرجل تركهم في ظل ظروف قاسية جدًّا مع امرأة ليس لها أحد إلا الله في بلد أصبحت فيها السرقة والدمار والقتل عادة يومية؟! ملاحظة: أتيح لي أن أخطف أبنائي وأسافر بهم دون علم أبيهم، والله ما منعني عن ذلك إلا أن يسخط الله عليّ. واليوم أنا تعبت من كل شيء، ولا حول لي ولا قوة إلا بالله، أريد أولادي دون أن يغضب عليّ الله، فأفتوني أرجوكم، وآسفة على الإطالة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يفرج همك، وينفس كربك، وأن يحفظ لك أولادك؛ إنه سميع مجيب.
ونوصيك بكثرة الدعاء؛ فالله -عز وجل- مجيب دعوة المضطر وكاشف الضر، قال سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ {النمل:62}. وكلما روعيت في الدعاء شروطه وآدابه كان أرجى للإجابة، وقد ضمَّنَّا الفتوى رقم: 119608 آداب الدعاء وشروطه، فراجعيها.
والطلاق إن لم تكن هنالك أسباب تدعو إليه مكروه، بل ذهب بعض العلماء إلى تحريمه؛ وذلك لما يترتب عليه من آثار سلبية كتشتت الأسرة وضياع الأولاد؛ قال الوزير ابن هبيرة: أجمعوا على أن الطلاق في حال استقامة الزوجين مكروه غير مستحب، إلا أن أبا حنيفة قال: هو حرام مع استقامة الحال. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأصل في الطَّلاق الحظر، وإنَّما أُبيح منه قدْر الحاجة. اهـ.
ولمزيد الفائدة انظري الفتوى رقم: 93107.
وفي حال افتراق الزوجين فالأم أحق بحضانة أولادها إلا إذا وجد ما يقتضي سقوطها عنها كزواجها مثلًا، وكذلك إذا سافرت سفر انتقال، فالحضانة للأب، ولكن الحضانة معول فيها على مصلحة المحضون، فإن خشي على الأولاد الضرر بوجودهم مع أبيهم لم يكن له الحق في حضانتهم؛ جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: يشترط فيمن تثبت له الحضانة أن يكون قادرًا على صون الصغير في خلقه وصحته, ولذلك لا تثبت الحضانة للعاجز لكبر سن أو مرض يعوق عن ذلك, أو عاهة كالعمى والخرس والصمم, أو كانت الحاضنة تخرج كثيرًا لعمل أو غيره وتترك الولد ضائعًا. اهـ. ومن أجل هذا نص بعض أهل العلم على أنه يشترط لاستحقاق الأب حضانة ولده أن تكون عنده أنثى صالحة للحضانة، كما سبق وأن بيّنّا في الفتوى رقم: 96892.
ولكن بما أن الأصل هو سقوط حق السائلة في الحضانة لتزوجها وسفرها بعيدًا عن ولي الأولاد، فلا يستطيع المفتي أن يفتيك بالسفر بالأولاد دون التحقق من كونهم لا يجدون من يحضنهم في بلدهم صالحًا لذلك، وكون السفر بهم هو الأصلح، فلا بد من رفع الأمر للمحكمة الشرعية لتنظر في الأمر وتقضي بما تقتضيه مصلحة الأولاد.
والله أعلم.