عنوان الفتوى : هل يدل حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة تبكي عند القبر ، فقال الله اتقي الله واصبري . على جواز زيارة النساء للقبور؟
علمت أنه لا يجوز للنساء زيارة القبور ، ثم مرَّ عليّ الحديث الذي فيه : " أن الرسول ﷺ مرَّ على امرأة تبكي على قبر فقال لها : ( اتقِ الله واصبري .. ) إلخ الحديث ، فهل في هذا الحديث دليل على جواز زيارة النساء للقبور ؟
الحمد لله.
فإن مسألة زيارة النساء للقبور من المسائل الخلافية بين أهل العلم ، والخلاف فيها سائغ .
وقد اختلف أهل العلم فيها على ثلاثة أقوال ، وهي:
الإباحة ، والجواز مع الكراهة ، والتحريم .
قال النووي في "شرح مسلم" (7/45) في أثناء شرح حديث (974) ، وهو من طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ ، فَنَادَانِي ، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ ، فَأَجَبْتُهُ ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ .
قال النووي :" وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ جَوَّزَ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ ، وَفِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا ، أَحَدُهَا : تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِنَّ لِحَدِيثِ لَعَنِ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ، وَالثَّانِي يُكْرَهُ ، وَالثَّالِثُ يُبَاحُ ". انتهى
وقد استدل كل فريق على ما يقول بأدلة تؤيد ما ذهب إليه .
ومن الأدلة التي استدل بها الجمهور على جواز زيارة النساء للقبور: هذا الحديث الذي أورده السائل الكريم .
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (1283) ، ومسلم في "صحيحه" (926) ، من طريق أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:" مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ ، فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ ، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى .
ووجه الدلالة من الحديث : إقرار النبي صلى الله عليه وسلم زيارة المرأة للقبور، فإنه صلى الله عليه وسلم رآها تبكي في المقابر ، فأمرها بالصبر ، ولم ينهها عن الزيارة ، ولو كانت حراما لنهاها عنها ولما أقرها ، وإقراره حجة ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يسكت على باطل .
قال القرطبي في "المفهم" (8/107) :" قوله : ( فزوروها ) ؛ نصٌّ في النسخ للمنع المتقدم .
لكن اختلف العلماء : هل هذا النسخ عام للرجال وللنساء ، أم هو خاص بالرجال ، وبقي حكم النساء على المنع ؟
والأول أظهر ، وقد دلّ على صحة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ـ قد رأى امرأة تبكي عند قبر ؛ فلم ينكر عليها الزيارة ، وإنما أنكر عليها البكاء ، كما تقدّم ". انتهى
وقال النووي في "المجموع" (5/310) :" وَأَمَّا النِّسَاءُ : فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ : لَا تَجُوزُ لَهُنَّ الزِّيَارَةُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ . وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فِي الْمَذْهَبِ ، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ [ يعني : جمهور الشافعية ] : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُنَّ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ .
وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ وَجْهَيْنِ : أَحَدَهُمَا : يُكْرَهُ ، كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ ، وَالثَّانِي : لَا يُكْرَهُ . قَالَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عندي ، إذا أمِنّ الافتتان .
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ : وَعِنْدِي إنْ كَانَتْ زِيَارَتُهُنَّ لِتَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالتَّعْدِيدِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ : حَرُمَ ، قَالَ : وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ : " لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ " . وَإِنْ كَانَتْ زيارتهن للاعتبار ، مِنْ غَيْرِ تَعْدِيدٍ وَلَا نِيَاحَةٍ : كُرِهَ ؛ إلَّا إن تكون عجوزا لا تُشتهى ، فَلَا يُكْرَهُ ؛ كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ ، وَمَعَ هَذَا : فَالِاحْتِيَاطُ لِلْعَجُوزِ تَرْكُ الزِّيَارَةِ ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؛ فَزُورُوهَا .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي ضِمْنِ الرِّجَالِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ أَنَّ زِيَارَتَهُنَّ لَيْسَتْ حَرَامًا : حَدِيثُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ ، فَقَالَ : اتَّقِي اللَّهَ واصبري "رواه البخارى وَمُسْلِمٌ .
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَهَا عَنْ الزِّيَارَةِ " انتهى.
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (3/148) :" وَاخْتُلِفَ فِي النِّسَاءِ : فَقِيلَ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الْإِذْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ . وَمَحَلُّهُ : مَا إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ .
وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ : حَدِيثُ الْبَابِ ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْمَرْأَةِ قُعُودَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ ، وَتَقْرِيرُهُ حجَّة " انتهى .
وقد أجاب القائلون بحرمة زيارة النساء للقبور على هذا الحديث بأنه ليس صريحا في أن المرأة جاءت لزيارة القبور .
قال الشيخ ابن عثيمين في "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (9/429) :" وأما الجواب عن حديث المرأة ، وحديث عائشة ؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا ، لكنها أصيبت ، ومن عظم المصيبة عليها، لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها ، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر ، ولهذا أمرها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تصبر ؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة ، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة ؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة ، وإذا لم يكن صريحا ؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح " انتهى .
وعلى كل فهذه المسألة من مسائل الخلاف السائغ ، والتي يسع المسلمين الخلاف فيها .
هذا وللقائلين بمنع المرأة من زيارة القبور أدلة تعارض هذا الحديث ، ومن أراد الاستزادة من ذلك فيمكنه مراجعة هذه الأجوبة (210114 )، (212378) ،
والله أعلم .