عنوان الفتوى : حكم من مات ولم يستطع وفاء ما عليه من ديون
جزاكم الله خيرا، وبارك فيكم. استشرتكم في فتويين سابقتين برقم: 2525108، و285490 بخصوص حق الظفر. إنني مكروب، ومهموم عندما أقرأ عن حقوق العباد، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن أي أحد عليه دين لا يدخل الجنة، ويمكن أن يطرح في النار. أنا الآن لدي خلافات مع صاحب العمل، بسبب سوء استغلاله لي في العمل، وإعطائي راتبا بسيطا، والله إنني متحمل، وأعمل معه، ومتحمل هذا فوق طاقتي والله، وهذا كله حتى أسدد المال الذي في ذمتي، وازدادت علي مشاكل البيت، وأصابني اليأس، والكآبة من الضغوطات، والملل، والهم. وصاحب العمل يمكن أن يعمل لي خروجا من المملكة، وأذهب إلى بلدي، وإذا ذهبت لا أستطيع أن أسدد بسبب وضع البلاد، ولا بد أن أكون مقيما حتى أجمع باقي المبلغ الذي في ذمتي؛ لكي أسدده. أخاف من العجز والله، ولكن مؤمن بالله سبحانه تعالي، ومفوض أمري إليه، وأحمد الله أني سددت أكثر من نصف المبلغ. سؤالي يتعلق بحقوق العباد يوم القيامة: فقد قرأت في النت، بأن حقوق العبـاد لا تغتفر، ولا تمحى بالتوبة، وأن كل ما اقترفه المسلم في حق أخيه المسلم في الدنيا، يكتب، ويحفظ إلى يوم القيامة، ولا يسامح الله به إلا من يشاء أن يسامحه. ما يعني أن حسنات العباد، توزع حسب ما انتهكوه من حقوق إخوانهم. وبذلك قـد لا يبقى للمرء حسنة من حسناته، ولو كثرت أعماله الصالحة. وبرغم توبته عن الذنب، وإقلاعه عنه. فهل هذا صحيح؟ وهل يشمل ذلك كل الناس حتى من تاب توبة نصوحا، وأخلص في عمله لله؟ من هو الشخص المقصود في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدخل النار، الحديث الذي يقول فيه: المفلس من يأتي يوم القيامة بكذا وكذا. الخ. هل هو العاجز، أم الذي لديه مال، ولا يريد أن يسدد ويراوغ؟ وكيف السبيل إن كان التحلل من أصحاب الحقوق على السيئات الماضية صعبا، أو مستحيلا؟ كالغيبة، والشجارات فقد نجد أصحاب الحقوق، وقـد لا نجدهم بحكم تغير الظروف؟ أو نجدهم، لكن قد يتعذر نيل السماح منهم، أو قبولهم للاعتذار. وهل صحيح أن حقوق العباد تقضى بعد عبور الصراط، والوقوف على باب الجنة؟ وهل يعني ذلك أن الكافر و(أهل النار) أيضا من المسلمين، لا يؤدون تلك الحقوق، لا التي لهم، ولا التي عليهم، باعتبارهم ليسوا ممن يعبرون الصراط، حيث توفى بعده حقوق العباد؟ أفيدونـي أنا خائف والله، والضغوطات تحاصرني من كل النواحي، إنني أبكي من الهم والكرب، ولا أعرف سببها. هل توبتي غير مقبولة؟ جزاكم الله الجنـان، ورضا الرحمـن، وبارك في علمكم، وعملكم، وأثابكم خير الإثابة، ورزقنـا وإياكم الدرجات العلا من الجنة. اللهم آمين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنبشرك أيها الأخ الكريم بأنك ما دمت تسعى وتجتهد في تسديد ما عليك بصدق، وإخلاص، فأنت على خير، وتوبتك صحيحة إن شاء الله.
وحيث تبت إلى الله توبة نصوحا، وعجزت عن أداء حقوق العباد حتى توفاك الله، فنرجو لك من الله سبحانه أن يصلح بينك وبين العباد، فيرضيهم بما شاء جل وعلا.
وقد عقد القرطبي في كتاب: "التذكرة" بابا في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة، أورد فيه بعض الأحاديث الدالة على ذلك.
وقال: وهذا لبعض الناس ممن أراد الله بها أن لا يعذبه، بل يعفو عنه، ويغفر له، ويرضي عنه خصمه، وقد يكون هذا في الظالمين الأوابين، وهو قوله تعالى: { إنه كان للأوابين غفورا } والأواب: الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه. كذا تأوله أبو حامد، وهو تأويل حسن، أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيئة حسنة من عمل صالح، يغفر الله له به، ويرضى خصماؤه كما تقدم. اهـ.
وعلى ذلك، فيمكن حمل حديث المفلس على من لم يتب، أو لم يرد الله له النجاة. أما من وفقه الله إلى التوبة النصوح الصادقة، لكنه عجز عن أداء الحقوق، فنرجو له من الله سبحانه أن يتجاوز عنه.
وانظر الفتاوى أرقام: 170689، 114435، 289819
وبخصوص الحقوق التي تعجز عن أن تجد أصحابها، فإنك تتصدق بها عنهم إن كانت مادية.
أما بخصوص التحلل من الحقوق المعنوية كالغيبة ونحوها، فراجع الفتويين: 18180، 99131 وإحالاتها.
وأما القضاء بين العباد فيما بينهم من حقوق، فإنه يكون بعد العبور على الصراط، كما جاء في صحيح البخاري وغيره، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا، وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة، أدل بمنزله كان في الدنيا.
وهذا إنما يكون لمن أراد الله سبحانه لهم النجاة، وإلا لم يخلصوا من عبور الصراط أصلا.
قال القرطبي في التذكرة: ولا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم. اهـ.
وعلى هذا، فمن خلص، وعبر فهو ممن أراد الله له النجاة، فيلقي الله العفو في قلوب خصومه، أو يعوضهم الله.
قال ابن الملقن: وقوله: (يتقاصون) أي: يتتاركون؛ لأنه ليس موضع مقاصة، ولا حساب؛ لكن يلقي الرب جل جلاله في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض، فيتتاركون، أو يعوض الله بعضهم من بعض. التوضيح لشرح الجامع الصغير.
والله أعلم.