عنوان الفتوى : لماذا لم يخيرنا الله قبل خلقنا، أنريد أن نخلق أم لا؟!

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هناك رجل ذو قوة وسلطة أجبر شخصا ضعيفا لا حول له ولا قوة علي الدخول إلي مطعم ، وأجبره أن يطلب من قائمة الطعام ، وأجبره أيضا علي أن يأكل ما طلبه ، ومن ثم يحاسب على ما أكله ، وكل هذا بالإجبار ، إن الله أجبرنا نحن بني آدم علي الدخول إلي الدنيا (المطعم) ، وجعلنا الله نختار ما بين الحق أو الباطل (قائمة الطعام) ، وفي الآخرة نحاسب علي اختيارنا هذا . السؤال: أليس كان من الأولي أن يخيرنا الله بأن نخلق أو لا نخلق ؟ وأن يخيرنا أن نكون إنسانا ، أو حيوانا ، أو أي مخلوق آخر غير الإنسان ؟ فأين حرية الاختيار في ذلك ؟

مدة قراءة الإجابة : 15 دقائق

الحمد لله.

أولا:

أيها السائل :

دعك من هذه الوساوس، واعلم الفرق بين مقام الألوهية ومقام العبودية، فالإله القادر يفعل ما يريد، ولا يُسأل عما يفعل، ولا يسأله المخلوق الحقير: لم خلقتني، ولِمَ لمْ تأخذ رأيي؟

جلَّ الله عن هذه الوساوس ، التي هي أشبه بلعب الشيطان ؛ بل هي ـ حقيقة ـ من تلاعب الشيطان ، بعقول خاوية ، وقلوب فارغة ، تصغي إلى عدو الله اللعين ...

فتأمل هذه الآيات ، لتعلم أن مقام الله أجل من أن يسأله عبده ، أو يتهمه في حكمته :

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/16-23 .

فأين أنت من ذلك ، يا عبد الله ؟!

أم تراك أعجبك لسانُك ، وغرك بيانُك ، إن كنت ترى لك لسانًا ، وبيانًا ؛ فذهبت تضرب لله الأمثال التافهة ، وتظن أنك قد أتيت بما لم يأت به الأوائل ؟!

قال الله تعالى : ( فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/74 .

أتدري كم حجمك في هذه الكون العظيم الذي خلقه الله؟!

أنت أصغر من ذرة، ومع ذلك تريد أن تحاكم الله، وتقترح عليه، بل تلومه وتحاكمه وتضرب له الأمثال.

العلم للرحمن جل جلاله * وسواه في جَهَلاته يتغمغمُ

ماللتراب وللعلوم وإنما * يسعى ليعلم أنه لا يعـلــمُ

يقول الفيلسوف ، والأديب ، أبو حيان التوحيدي ، في رده على غرور أهل الغرور، وفتنتهم ، وعجبهم بشقاشق الألسنة ، وأوهام العقول :

" .. وعلا عن إحاطة شيءٍ بكُنْهِه ، فليس لعقلٍ مجالٌ في سرِّه، ولا لوهمٍ منالٌ من غَيْبِه ، ولا لمعترض ثباتٌ عند اختلاف أفانين قدرته .

وإنما عليك أن تعرف نقصك في كمالك ، وعجزك في قدرتك ، وسفهك في حكمتك ، ونسيانك في حفظك، وخبطك في توفيقك ، وجهلك في علمك ...

فلا تُرَعْ ؛ فليس ما جل عنك : وجب أن يبطل عليك ، ولا ما دق عن فهمك : وجب أن يُبَهْرِجه نقدُك ، حاكِمْ نفسك إلى نفسك ، وعقلك إلى عقلك ... ، ولا تكن إلباً عليهما فتخسر وأنت حاكم ، وتحشر وأنت واهم !! " انتهى مختصرا من "البصائر والذخائر" (9/85-87) .

وصدق الله العظيم : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) الأحقاف/26 .

ما أحلم الله، وما أرحمه، وما أصبره على أذى عباده!

أيها الإنسان.. قد خُلقت، وكان ما كان، فهلا عملت لنجاتك؟

قد أيقنت أنك جئت للدنيا بلا اختيار، وعلمت أن مصيرك الموت، وأنك غدا ستحاسب أمام هذا الرب العظيم، فهلا شغلت نفسك بتحصيل ما به تفوز وتنجو، بدلا من التكلّف والتنطع والاعتراض ؛ وضياع الأعمار في الأوهام ، والجدال ، والمِحال ؛ ثم ما هو آت .. آت ..!!

وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (245073) ، ورقم : (123973) .

ثانيا:

قد أخطأت في القياس، وجهلت، وظلمت.

فكان حقك أن تقول : رجل وجد غيره جائعا ، عاريا ، جاهلا ، ضعيفا ، عاجزا ...

فهداه من الضلالة ، وبصره بالطريق بعد العمى ، وكساه بعد عري ، وأطعمه من جوع ، وآمنه من خوف ؛ ثم أعطاه نعما ، ومالا ، وقال له : من هذا المال الذي أعطيت ، وأنعمت به عليك: ادفع ثمن ما أكلت من طعام ، أو اكتسيت من لباس ؛ ثم إنك إذا دفعت ثمن هذا الطعام الذي أكلته ، من المال الذي أعطيتك : فلك عندي طعام ألذ وأجمل وأفخر، ونعيم أهنأ وأمرأ وأدوم .

وإن خنت عهدي إليك ، ولم توف ما طلبته منك : عذبتك ، على خيانتك ، ولا أبالي .

فمن الناس عاقل ، راشد ، أكل من خيره ، وأدى شكره ، وبذل من المال الذي أعطاه .

ومنهم من خاب وخسر ، وضيع حظ نفسه ، وبخل بما لم يتعب فيه ، ولم تعمل يداه !!

وكذلك أوجدنا الله في هذه الحياة بلا اختيار، ثم بين لنا الخير من الشر، ودعانا إلى فعل الخير، وأخبرنا أنه يثيبنا ويعطينا ويمتعنا ويبارك في أعمارنا إن نحن فعلنا الخير وتركنا الشر.

فانظر إلى فضل الله وكرمه ورحمته؛ ثم ها أنت تريد أن تسأله ـ جل الله ـ عن أعظم نعمه عليك، وتقول: لماذا أوجدتني من العدم ، وجعلتني شيئا ، ولم أك من قبل شيئا ؟!

فكأن هذا الجائع الذي كاد أن يفنيه الجوع، يقول لمطعمه : لماذا أطعمتني ، كنت تتركني ، لأموت ؟ ثم هو يتسخط نعمة المنعم ، المطعم ؟!!

فاستمع إلى هذه الآيات ، يا عبد الله :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) سورة إبراهيم /28-34 .

وانظر إلى حال المنافق ، وقد سأله الله عن نعمه التي أنعم بها عليه يوم القيامة :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

قَالَ: (هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ، لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟)

قَالُوا: لَا.

قَالَ: (فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟)

قَالُوا: لَا.

قَالَ: ( فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ، فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي.

ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ، وَتَرْبَعُ، فَيَقُولُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي.

ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ ).

رواه مسلم (2968) .

ولهذا نحن نقول: قد أنعم الله على الإنسان بأن أوجده من العدم، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، ودعاه للعبودية، فيا لسعادة من استجاب ونال الشرف.

عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ، قال: " جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَانُ.

فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ.

فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالقَلْبَ يَقْظَان.

فَقَالُوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ " رواه البخاري (7281) .

فحذار حذار يا عبد الله من عُجبك بمَثلٍ سوَّلَه لك عقلك ؛ واستمع لهذه الآيات الكريمات :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل/73-78 .

ثالثا:

قولك: فأين حرية الاختيار؟ وكأن الله تعالى أعطاك شهادة مكتوب عليها أنت حر، حتى تعترض وتستنكر.

وأين كنت أنت ، أيها العدم ، حتى تختار ، ويكون لك رأي ؟!

إن رأس سؤالك: غلط ، ونهايته وذيله : لبس ، وزلل!!

فإنك حتى تختار ما تختار ، وحتى يستأذنك الله : لا بد وأن تكون موجودا ، مخلوقا ؛ فإن العدم ليس شيئا أصلا ، فكيف يُسأل هذا العدم ، اللاشيء : هل تحب أن تخلق ، أو لا تحب ؟

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) الإنسان/1-3

وأما بعد خلقك ، فقد فات وقت الاستئذان ، والسؤال الذي يقترحه عليك عقلك ، أو شيطانك ؛  جل الله عن ذلك ، وجل عن أن يسأله خلقه، أو يحكموا عليه بعقولهم الكاسدة !!

وحينئذ ، لم يبق بعد أن خلقت من العدم ، وأعطيت النعم : إلا أن تشكر ، وتتعلم تجربة الابتلاء التي أنت مقدم عليها ، والاختبار الذي عليه مدار نجاتك ، وفلاحك في الدارين .

إن الله تعالى لم يقل لنا : إن عباده أحرار في كل شيء ، هكذا ، ولا أنهم مخيرون في كل شيء هكذا ، بل رب العالمين هو المتفرد بالجلال ، والسلطان ، والأمر ، والملك ، سبحانه : ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/23 .

لكن أخبر الله عباده : أن لهم مشيئة واختيارا، وأن ذلك خاضع لمشيئته واختياره، فقال: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير/28، 29 .

وأخبر أنهم مخيرون في فعل الكفر والإيمان، أي ليسوا مجبرين على شيء منهما، فقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) الكهف/29 .

وأما وجود الإنسان في الحياة، أو حركة قلبه وأمعائه، أو كونه يموت في وقت كذا، فهذا لا خيرة فيه.

فالنصيحة لك ، يا عبد الله ، أن تتأمل في نعم الله عليك، وأن تشغل نفسك بفعل الطاعات التي تقربك إليه، ومجانبة المعاصي التي تباعدك منه، وأن تُعرض عن الشبهات والوساوس، فإنك عمَّا قريب ميت، وستسأل وتحاسب، ولن تنفعك الشبهات، ولا قرناء السوء، بل ينفعك عملك الصالح (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) مريم/93- 95

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (123973) .

نسأل الله أن يشرح صدرك، وينوّر قلبك، ويهديك صراطه المستقيم.

والله أعلم.