عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في ملاقاة النجاسة للماء وكان دون القلتين
رجحتم في إحدى الفتاوى أن المائع -خلاف الماء- يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة تغير أم لا. ثم رجحتم في أخرى أن المائع والماء لا يتنجسان بملاقاة النجاسة ما لم يتغيرا. فأيهما القول الأخير؟ وأيهما أرجح؟ لأني أعرف أن الماء فيه خلاف، وذلك لظاهر اختلاف الأحاديث، فما هو رد المالكية والحنفية على حديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث؟ وما قال به الشافعية والحنابلة من تنجس الماء دون القلتين لمجرد ملاقاة النجاسة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم تذكر لنا أرقام الفتاوى التي أشكل عليك تعارضها لنزيل عنك الإشكال، ولكن على كل حال فإننا نقول: إن العلماء اختلفوا في المائع إذا لاقته النجاسة هل ينجس بمجرد ملاقاتها قلَّ أو كثر، أم ينجس إن كان قلتين فأقل، أم لا ينجس إلا بالتغير؟ والقول الثالث هو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقرره في رسالة مطبوعة ضمن الجزء الحادي والعشرين من مجموع الفتاوى، وأما المفتى به عندنا في هذه المسألة: فانظره في الفتوى رقم: 116082.
وأما الماء: فالخلاف فيه مشهور، والقائلون بأنه لا ينجس إلا بالتغير هم المالكية ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الحنفية فهم وإن كانوا لا يقولون بحديث القلتين لكنهم ينجسون قليل الماء بملاقاة النجاسة على تفصيل معروف في مذهبهم يفرقون به بين القليل والكثير.
وأما جواب من لم ير العمل بحديث القلتين ورأى أن الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة إلا بالتغير فلهم عن الحديث أجوبة، منها تقرير ضعفه وعدم صلاحيته للاحتجاج، وممن ضعفه أبو عمر ابن عبد البر -رحمه الله-،حيث قال: وهذا اللفظ محتمل للتأويل، ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يوجب التوقف عن القول بهذا الحديث إلى أن القلتين غير معروفتين، ومحال أن يتعبد الله عباده بما لا يعرفونه. انتهى. ومنها على تقدير صحته دعوى أن مفهومه معارض بعموم حديث: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. وأن هذا العموم مقدم على مفهوم هذا الحديث لموافقته عمل أهل المدينة وموافقته القياس الجلي، ولكون المفهوم جاء لبيان الواقع؛ قال ابن القيم -رحمه الله- في تهذيب السنن: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْطُوق حَدِيث الْقُلَّتَيْنِ لَا نُنَازِعكُمْ فِيهِ وَمَفْهُومه لَا عُمُوم لَهُ فَبَطَل الِاحْتِجَاج بِهِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا. وَأَمَّا قَوْلكُمْ إِنَّ الْعَدَد خَرَجَ مَخْرَج التَّحْدِيد وَالتَّقْيِيد كَنُصُبِ الزَّكَوَات: فَهَذَا بَاطِل مِنْ وُجُوه؛ أَحَدهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مِقْدَارًا فَاصِلًا بَيْن الْحَلَال وَالْحَرَام وَالطَّاهِر وَالنَّجِس لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيّ بَيَانه بَيَانًا عَامًّا مُتَتَابِعًا تَعْرِفهُ الْأُمَّة، كَمَا بَيَّنَ نُصُب الزَّكَوَات، وَعَدَد الْجَلْد فِي الْحُدُود، وَمِقْدَار مَا يَسْتَحِقّهُ الْوَارِث، فَإِنَّ هَذَا أَمْر يَعُمّ الِابْتِلَاء بِهِ كُلّ الْأُمَّة فَكَيْف لَا يُبَيِّنهُ حَتَّى يَتَّفِق سُؤَال سَائِل لَهُ عَنْ قَضِيَّة جُزْئِيَّة فَيُجِيبهُ بِهَذَا، وَيَكُون ذَلِكَ حَدًّا عَامًّا لِلْأُمَّةِ كُلّهَا لَا يَسَع أَحَدًا جَهْله وَلَا تَتَنَاقَلهُ الْأُمَّة وَلَا يَكُون شَائِعًا بَيْنهمْ، بَلْ يُحَالُونَ فِيهِ عَلَى مَفْهُوم ضَعِيف شَأْنه مَا ذَكَرْنَاهُ قَدْ خَالَفَتْهُ الْعُمُومَاتُ وَالْأَدِلَّة الْكَثِيرَة، وَلَا يَعْرِفهُ أَهْل بَلْدَته وَلَا أَحَد مِنْهُمْ يَذْهَب إِلَيْهِ؟! الثَّانِي: أَنَّ اللَّه -سُبْحَانه وَتَعَالَى- قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، وَقَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}، فَلَوْ كَانَ الْمَاء الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّر بِالنَّجَاسَةِ مِنْهُ مَا هُوَ حَلَال وَمِنْهُ مَا هُوَ حَرَام لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان لِلْأُمَّةِ مَا يَتَّقُونَ، وَلَا كَانَ قَدْ فَصَّلَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَنْطُوق مِنْ حَدِيث الْقُلَّتَيْنِ لَا دَلِيل فِيهِ، وَالْمَسْكُوت عَنْهُ كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم يَقُولُونَ لَا يَدُلّ عَلَى شَيْء فَلَمْ يَحْصُل لَهُمْ بَيَان وَلَا فَصْل الْحَلَال مِنْ الْحَرَام. إلى آخر كلامه -رحمه الله-، وقد أطال المحقق ابن القيم في هذا الموضع في أول تهذيب السنن في إيراد حجج الطائفتين، وقرر أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وأجاب عن حجج المخالفين، فأجاد وأفاد، فارجع إليه إن شئت الزيادة، وأما المعتمد في موقعنا فهو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة وهو تنجس الماء بملاقاة النجاسة إذا كان دون القلتين.
والله أعلم.