عنوان الفتوى : من هو أميّة بن أبي الصلت؟
من هو أمية بن أبي الصلت؟ يَدَعيِ بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، والعياذ بالله ، قد نسخ شعره في القرآن ، ولقد رأيت أن بعضًا من أشعاره تتحدث عن الجنة والنار حينما لم تكن قريش مؤمنة بهما؟ كما ذكر أنّ النجوم ترجم الشياطين ، لا أفهم كيف قال ذلك بينما لم يكن يؤمن المشركون بهذا الأمر، وأيضًا، هل كان يتنافس مع النبي صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله
أولا:
أميّة بن أبي الصلت؛ هو شاعر جاهلي من أهل الطائف، وكان أبوه ، أبو الصلت ، شاعرا أيضا.
قال محمد بن سّلام الجُمَحي:
" وبالطائف شعر وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التى تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم.
والذى قلل شعر قريش : أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا؛ وذلك الذى قلل شعر عمان وأهل الطائف فى طرف، ومع ذلك كان فيهم:
أبو الصلت بن أبى ربيعة.
وابنه أمية بن أبى الصلت وهو أشعرهم ... " انتهى. "طبقات فحول الشعراء" (1 / 259).
وتتفق الأخبار على أن أميّة هذا كان متصلا في الجاهلية بأهل الكتاب ، يسمع أخبارهم وكتبهم، ويتصل بمن يكفر بالأصنام من العرب ، ويبحث عن التوحيد ، وقد ترك هذا أثرا في شعره.
قال ابن سّلام:
" وكان أميّة بن أبى الصلت كثير العجائب، يذكر فى شعره خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شامَّ – أي اقترب من - أهل الكتاب " انتهى من "طبقات فحول الشعراء" (1 / 259).
وقال ابن قتيبة:
" وقد كان قرأ الكتب المتقدمّة من كتب الله جلّ وعزّ، ورغب عن عبادة الأوثان، وكان يخبر بأنّ نبيّا يبعث قد أظلّ زمانه ، ويؤمّل أن يكون ذلك النبىّ، فلمّا بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصّته ، كفر ؛ حسدا له " انتهى من "الشعر والشعراء" (1 / 459).
وقال ابن دريد:
" وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي صلى الله عليه وسلم لادّعت ثقيف أنّ أمية نبي. لأنه قد دارس النصارى، وقرأ معهم، ودارس اليهود، وكلَّ الكتب قرأ. ولم يسلم " انتهى من "الإشتقاق" (ص 303).
وقد عاش أميّة إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: توفي في السنة التاسعة للهجرة النبوية قبل إسلام أهل الطائف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" والمعروف أنه مات في التاسعة.
ولم يختلف أصحاب الأخبار أنه مات كافرا، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر، وقيل: إنه الذي نزل فيه قوله تعالى: ( الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) [الأعراف 175] وقيل: إنه مات سنة تسع من الهجرة بالطائف ، كافرا ، قبل أن يسلم الثقفيون " انتهى من "الإصابة" (1 / 471).
ثانيا:
القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ شيئا من شعر أميّة هذا في القرآن؛ هذه شبهة سخيفة أنكرها حتى بعض أهل الكفر المحاربين للإسلام ، لظهور مخالفتها للمنطق والعقل.
ويظهر زيف هذه الشبهة وسذاجتها بأمور:
الأمر الأول:
أنه ليس مجرد نسبة شعر لشاعر يقطع بصواب نسبته؛ فرواية الشعر قد داخلها الكذب والوضع ، كما هو الحال في عامة الروايات والأخبار؛ فلذا يشكك أهل النقد في قطعة كبيرة من الشعر المنسوب لأميّة بن أبي الصلت ، بسبب مغايرة أسلوبه لأسلوب الشعر الثابت عنه؛ ورجّحوا أن المنطق يقتضي أن شعر أمية بن أبي الصلت المشابه لبعض آيات القرآن ، هو مما وضعه بعض الرواة في عصر الإسلام ونسبوه لأميّة.
قال الدكتور شوقي ضيف:
" وجمع له شولتهس ( Schulthess ) مجموعة من أبياته ترجمها إلى الألمانية ونشرها في ليبزج سنة1911، وفي سنة 1936 نشر له بشير يموت في بيروت طائفة من أشعاره باسم "ديوان أمية".
وتدور هذه الأشعار في موضوعين أساسيين:
أما الموضوع الأول: فيتحدث فيه عن خلق السموات والأرض، ونشأة الكون، مستدلا بذلك على وجود الله، ومتحدثًا عن الموت والفناء والبعث والنشور والعذاب والثواب...
وهذه المعاني تستمد من القرآن الكريم بصورة واضحة، وأسلوبها ضعيف واهن؛ ولذلك كنا نظن أنها وما ويماثلها مما نُحِل على أمية.
والموضوع الثاني: الذي يدور فيه شعره ليس أقل من الموضوع الأول اتهاما؛ بل لعل الاتهام فيه أوضح، إذ نراه يقص علينا سير الأنبياء قصصا لا يكاد يفترق في شيء عما جاء في القرآن الكريم كقوله في رؤية إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل وما كان من افتدائه بذبح عظيم...
وواضح أن هذا شعر ركيك ساقط الأسلوب ، نظمه بعض القصاص والوعاظ في عصور متأخرة عن الجاهلية.
وقد ذهب "هيار" يزعم حين اطلع على شعر أميّة أنه اكتشف فيه مصدرًا من مصادر القرآن الكريم، ولو كان له علم بالعربية ، وأساليب الجاهليين : لعرف أنه وقع على أشعار منتحلة بينة الانتحال، ولما تورط في هذا الخطأ البيّن، وقد رد عليه غير واحد من المستشرقين... " .
انتهى من "تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي" (ص 395 – 379).
والبحث الموضوعي يلزم منه أن لا نشكك في أمر ثبتت صحة روايته وسنده بأدلة قاطعة -وهو القرآن الكريم-، برواية مشكوك فيها وهي أشعار أميّة.
قال الدكتور جواد علي:
" ولما كان القرآن محفوظا ثابتا، فلم يرتق إليه الشك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظم. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم.
وقد كان عليهم أن يثبتوا أولا ، إثباتا قاطعا ، صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدما أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه " .
انتهى من "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (6 / 494).
فالحاصل؛ أن قطعة كبيرة من شعر أميّة لا يمكن الجزم بصحة نسبتها إليه؛ وعلى هذا فالموضوعية في البحث تقتضي أن لا تثار هذه الشبهة ، إلا بعد الجزم بصحة نسبة كل هذه الأشعار إلى أمية.
وأما القليل الثابت منها فليس فيها ما يستشكل ، إذا علمنا أن أهل التاريخ متفقون على اطلاع أميّة على علم أهل الكتاب وكان كثير السفر.
قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى:
" وكان يحكى فى شعره قصص الأنبياء، ويأتى بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب ...
وعلماؤنا لا يرون شعره حجّة فى اللغة " انتهى من "الشعر والشعراء" (1 / 459 - 461).
الأمر الثاني:
أن أميّة كان كافرا بالإسلام منكرا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته؛ وكان متصلا بسادة قريش، وقريته الطائف بمقربة من مكة؛ ولأهل مكة بساتين بالطائف، وقد تأخرت وفاته ، كما سبق ؛ فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ من شعر أميّة ، لكان هذا حجة قوية لأميّة ، ولسادة قريش في حربهم للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن كل ذلك لم يحدث.
قال الدكتور جواد علي:
" افتراض، أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن الكريم، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا.
ثم إن قريشًا ومن لف لفها ، ممن عارض الرسول ، لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له إنك تأخذ من أمية، كما قالوا له: إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ).
ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت.
ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك ، أو يظن أن محمدًا إنما أخذ منه ؛ لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد.
هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن ، وإن كان بعيدا ، يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟
لو كان شعر بذلك، لنادى به حتما، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد ، أخذا من منبع واحد، وأن محمدا أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثقيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به " انتهى من "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (6 / 492).
ومما يؤيد أن شعر أميّة لم يسبب أي حساسية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، طلب من أحد سكان الطائف أن يسمعه شيئا من شعر أميّة ، وورد في رواية أن هذا ورد أثناء حجة الوداع، وذلك بعد وفاة أميّة وإسلام أهل الطائف.
فعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " رَدِفْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هِيهْ ، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهْ ، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهْ، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ" رواه مسلم (2255) .
وفي روايه له : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنْ كَادَ لِيُسْلِمُ .
وفوق هذا ؛ فإن أولادا لأميّة وأخته كانوا قد أسلموا ، وهم معدودون في الصحابة رضوان الله عليهم، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من شعره، فكيف يصدقونه ويتبعونه ؛ وهم يرونه قد انتحل شعر أبيهم ، ومعارفه وعلومه ؟!
الأمر الثالث:
القرآن الكريم كتاب شامل لأبواب العقيدة والغيب والأحكام والقصص والأمثال، مترابط يشبه بعضه بعضا في بيانه وفصاحته ، وأحكامه وحكمته ، وفي معانيه ولغته ؛ كما قال سبحانه وتعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ الزمر/23.
وأما شعر أميّة ، فعلى فرض صحة نسبته إليه كله ؛ فهو إنما يتعلق ببعض القصص ، وبعض أمور الغيب ، لا يتجاوز هذا ، وهو مضطرب الأسلوب من قصيدة إلى أخرى .
فالقول بأن أميّة – أو قائل هذا الشعر المنسوب إليه !! – هو من أخذ من القرآن ، أولى من افتراض أخذ القرآن الكريم من أميّة.
والحاصل؛ أن هذه الشبهة هي شبهة غاية في السقوط ؛ لذا انتقدها نفر من المستشرقين المنصفين للبحث التاريخي ، والنقد العلمي .
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |