عنوان الفتوى : هل عدم دفع القاتل المبلغ المحدد مقابل التنازل عن القصاص في الوقت المحدد يوجب الرجوع إلى القصاص
قام شخص بقتل شخص آخر، فذهب شقيق المقتول وتنازل عن القصاص من القاتل مقابل 5 ملايين من الريال السعودي تدفع بعد 5 شهور وانقضت المدة المتفق عليها ولم يدفع القاتل المبلغ المتفق عليه، مع العلم أن شقيق المقتول مدمن مخدرات ويعالج في مصحة نفسية، وباقي ورثة المقتول لم يوافقوا على هذا التنازل، فهل تنازل مدمن المخدرات عن القصاص صحيح؟ وهل يجوز رجوع الورثة عن تنازل أخيهم مدمن المخدرات، علما بأن التنازل عن القصاص كان مشروطا بدفع 5 ملايين من الريال، ولم تدفع في الموعد المحدد؟ وهل يجوز لهم القصاص من القاتل؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدا من أهل العلم اشترط لصحة العفو عن القصاص العدالة أو الرشد، وإنما يشترطون البلوغ والعقل، فلا يصح من الصغير والمجنون، جاء في الموسوعة الفقهية: لا يصح العفو عن القصاص من قبل الصغير والمجنون، وإن كان الحق ثابتا لهما، وهذا باتفاق الفقهاء، لأنه من التصرفات المضرة المحضة، فلا يملكانه كالطلاق والعتاق ونحوهما. اهـ.
وفيها أيضا: ذهب الفقهاء إلى أنه يشترط في العافي أن يكون عاقلا بالغا، فلا يصح العفو من الصبي والمجنون وإن كان الحق ثابتا لهما... اهـ.
وعلى ذلك، فعفو السكير أو مدمن المخدرات صحيح إذا كان حال حضور عقله، وكذلك إذا صالح عن حقه في القصاص بمال، لأن الشرع يتشوف إلى العفو ويرغب فيه، ويبقى الإشكال في كون مال الصلح سيكون عونا له على الفساد بإسرافه وإنفاقه فيما لا يحل، وهذا الجانب جاءت الشريعة بمراعاته بباب الحجر، فمثله حقيق بالحجر عليه، لكن أمر الحجر مرده إلى القاضي لا إلى آحاد الناس، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 128475.
وأما رجوع الورثة عن تنازل أخيهم: فليس لهم ذلك، فإن القصاص يسقط إذا عفا أحد أولياء الدم أو صالح عنه، قال الرحيباني في مطالب أولي النهى: ولمن وجب له القصاص الصلح على أكثر منها ـ أي الدية ـ لأنه لم يعف مطلقا، وإن اختارها ابتداء تعينت وسقط القود. اهـ.
وقال الحجاوي في زاد المستقنع:إن اختار القود، أو عفا عن الدية فقط، فله أخذها والصلح على أكثر منها، وإن اختارها أو عفا مطلقا، أو هلك الجاني فليس له غيرها. اهـ.
وقال ابن قاسم في حاشية الروض المربع: لتعينها باختياره وسقوط القود، قال أحمد: إذا أخذ الدية فقد عفا عن الدم، ولا يملك طلبه بعد اختيار الدية، لأنه إذا سقط لا يعود. اهـ.
ثم إن هذا المال المصالح عليه لا ينفرد به هذا المدمن، وإنما يشاركه فيه بقية أولياء الدم بحسب أنصبتهم من الدية على الراجح من أقوال أهل العلم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 128205.
وأما مسألة عدم التزام القاتل بدفع المال الذي تم الصلح عليه، فهذا مرده إلى القاضي، فهو الذي يلزمه بالدفع، ويعاقبه إن تأخر من غير عذر، وعلى أية حال فإن القصاص يسقط إذا أقر أحد أولياء الدم بالصلح والعفو على مال، حتى وإن أنكر القاتل حصول الصلح، لوجود الشبهة، قال الكاساني في بدائع الصنائع: في الصلح عن قصاص إذا لم يصح، كان له أن يرجع على القاتل بالدية دون القصاص... لأن صورة الصلح أورثت شبهة في درء القصاص، والقصاص لا يستوفى مع الشبهة فسقط، لكن إلى بدل، وهو الدية. اهـ.
ونحو ذلك جاء في المدونة في حال رسم الدعوى في الصلح على دم عمد وأنكر صاحبه: أنه لا يقتص منه، وله عليه باليمين. اهـ.
وقال الشافعي في الأم: من زعم أنه كان له القصاص ولم يكن له إلا القصاص ولم يكن له أن يأخذ مالا، أبطل القصاص عن الذي وجب عليه القصاص، بأن المدعي زعم أنه قد أبطل حقه فيه إذ قال: قد عفوته على مال، وأنكر الذي عليه القصاص المال، فعليه اليمين. اهـ.
وجاء في كتاب الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي: الصلح عن القصاص لا ينفسخ، لأن الصلح عن القصاص إسقاط محض لحظ وليّ الدم في استيفاء القصاص من القاتل، لأنه عفو عنه، وقد علمت أن الساقط لا يعود بعد إسقاطه فلا يحتمل الفسخ، وفي هذه الحالة يرجع المدّعي على القاتل بالدية، لا بما صالح عليه، لأن القصاص سقط لشبهة الصلح، فيسقط إلى بدله المشروع وهو الدية. اهـ.
والحقيقة أن موضوع هذا السؤال لا يمكن الفصل فيه إلا بعرضه على القضاء الشرعي، فهو الجهة القادرة على التحري والتحقيق والتثبت، والقادرة على فض النزاعات والحكم في الخصومات.
والله أعلم.