عنوان الفتوى : ثمرات العـفـو عن الظالم لا تقارن بالانتصاف منه
ماهو حكم الشريعة في خصام المسلم الذي يتسبب في ضرر لمسلم آخر ..هل يجوز الامتناع عن مصالحته ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى حرم أذية المسلم وإلحاق الضرر به في نفسه وعرضه وماله؛ بل حرم الظلم عموماً تحريماً غليظاً، قال الله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58].
ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.... أخرجه مسلم وغيره.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.... وهذا لفظ مسلم... إلى غير ذلك من نصوص الوحي الكثيرة المشهورة.
وإذا كان الله تعالى حرم الظلم ابتداء.. فإن حكمته ورحمته سبحانه وتعالى اقتضت أن يحث المظلوم على الصبر والصفح عمن ظلمه ودفع السيئة بالحسنة، مع أنه مكنه -بمقتضى عدله بين خلقه- من أن ينتصر لنفسه ويدفع الظلم عنه.
قال الله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى].
فأثبت الله للمظلوم حقه في الانتصار لنفسه ودفع الظلم عنه عدلاً منه سبحانه وتعالى، وحثه في أول الآيات وآخرها على العفو والصفح والمصالحة رحمة منه وحكمة، لما في ذلك من لمِّ الشمل وسد باب الفرقة والتنازع الذي قد يؤدي إلى ماهو أشنع وأفظع، ولما فيه من قطع دابر الشيطان وما يريده من إيقاع العداوات والبغضاء بين الناس.
وقد وعد الله تعالى المظلوم بنتائج طيبة جراء عفوه وصفحه ومنها ما تقدم، ومنها أنه بعفوه وصفحه قد يصير الظالم ولياً رحيماً مسالماً، وأن الله سبحانه وتعالى يرفع قدر المظلوم ويعزه، على خلاف ما تتصوره العامة من الناس حيث يظنون العفو مذلة، والصفح مسكنة.
قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].
وفي المسند والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، فأما الثلاث التي أقسم عليهن فإنه: ما نقص مالَ عبد صدقةٌ، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر.... وقد أخرج مسلم في صحيحه مثله.
هذا ولتعلم -أيها الأخ السائل- بما بيناه لك أن الخصام والسباب والمقاطعة والامتناع عن المصالحة ليس هو السبيل السوي للانتصاف من الظالم وردعه، ورد الحق للمظلوم، وإنما السبيل السوي في التعامل مع الظلم إما بالعفو عنه والصفح إذا لم تترتب على ذلك مفسدة أعظم، وإما برفع ظلمه ودفع شره من غير تعد ولا عدوان، سواء كان ذلك من المظلوم نفسه في الحالات التي له فيها أن يأخذ حقه لنفسه، أو من غيره من سلطان أو جماعة المسلمين، وهم مطالبون شرعاً برفع الظلم عن المظلوم ونصره.
والله أعلم.