عنوان الفتوى : لماذا الديانة البوذية تمتلك بعض الرقى والتعاويذ، يظهر لها أثر على المريض ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

لماذا الديانة البوذية تمتلك رٌقا وتعاويذ فعّاله ، وحقيقية كما في الإسلام؟ لا أعلم عن البوذية الجنوبية ، لكن هذا أمر مؤكد بالنسبة للبوذية الشمالية لذا، أتمنى أن لا تكون الإجابة إنكارا لذلك. سأذكر مثالين: الأول هو الأونميودو ، والثاني هو إني رأيت فيديوهات صينية لطرد الجن من البشر مطابق ، كما هو الحال مع طرد الجن في الإسلام لكن بآيات غير قرآنية.

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله

إذا سلمنا أن تلك الديانة فيها رقى وتعاويذ فعالة وحقيقية –كما جاء في السؤال - فإن ذلك لا يلزم منه صحة تلك الديانة ، ولا صحة تلك التعاويذ .

وذلك لأن تلك التعاويذ تدخلها بعض الاحتمالات ، أظهرها ما يلي :

أولا:

قد تكون تلك التعاويذ جائزة شرعا ، وليس فيها شيء من الشرك ، وإنما هي أدعية ؛ يتوجه بها الراقي إلى الله تعالى ، الذي ترشد إليه الفطرة عند الاضطرار، فمثل هذه التعاويذ قد يستجيب الله تعالى لها ، وإن كان صاحبها مشركا؛ لأنه سبحانه وتعالى رب لجميع الخلق يتولاهم بالنعم، ولهذا كانت هذه النعم حجة على أهل الشرك في توحيد الألوهية.

قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:

" وإجابة الله لدعاء العبد ، مسلما كان أو كافرا، وإعطاؤه سؤله: من جنس رزقه لهم ، ونصره لهم ، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقا، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه" انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 459).

ويظهر ذلك أكثر ، إذا فهمنا أن مثل هذه الحال قد يكون فيها اضطرار، والله تعالى من رحمته أنه يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان مشركا.

قال الله تعالى واصفا حال المشركين:  فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ العنكبوت/65 - 66.

وقال الله تعالى:   وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا* أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا  الإسراء/67 - 69.

وقال الله تعالى واصفا حال المشرك:  وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ   الزمر/8.

وقال الله تعالى:  أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ  النمل/62.

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

" ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللَّجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عمّا سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر... " انتهى من "تفسير القرطبي" (16 / 193).

وراجع للأهمية جواب السؤال رقم : (177561).

والطالب للرقية كثيرا ما تكون مصيبته بسبب ظلم من جن أو إنس بمسّ أو سحر، والله سبحانه وتعالى يجيب المظلوم ولو كان كافرا.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ:   اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ   " رواه البخاري (2448) ، ومسلم (19).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:   ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ   رواه أبو داود (1536) ، والترمذي (1905)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" أما دعوة المظلوم فمعناها إذا ظلمك أحد ... فإذا دعوت الله عليه استجاب الله دعاءك، حتى ولو كان المظلوم كافرا وظلمته ثم دعا الله عليك، استجاب الله دعاءه، لا حبا للكافر ولكن حبا للعدل، لأن الله حكم عدل ، والمظلوم لابد أن ينصف له من الظالم ، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: ( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (4 / 615 - 616).

ولهذا كان الصحابة في الجاهلية يباشرون جملة من التعاويذ ، وكانوا يجدون لها أثرا؛ فاستشاروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فأذن لهم فيها إذا لم يكن فيها شرك.

فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ:  " كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟

فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ  رواه مسلم (2200).

ثانيا:

أن بعض هذه الرقى قد تكون من باب الاستعانة بالجن والتقرب إليهم لرفع ظلمهم، أو بإعانتهم بما يقدرون عليه ولا يقدر عليه الإنس.

فيتقربون إلى أحد كبراء الجن ليرفع عنهم أذى سفهائهم ، أو يتقربون إلى الجن المؤذي نفسه ليرفع عنهم أذاه .

قال الله تعالى:  وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا  الجن/6.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سببا لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا!

وكذلك الرقى؛ والعزائم الأعجمية: هي تتضمن أسماء رجال من الجن يدعون؛ ويستغاث بهم ويقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور.

وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى:  وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ...  الآية. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1 / 363).

والاستعانة بالجن تكثر عند المشركين، ولذلك حذرهم الله تعالى من عاقبة ذلك؛ حيث قال سبحانه وتعالى:   وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ  الأنعام/128.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به.

والإنسي يستمتع بنيل أغراضه، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه الجِنّي، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 273).

ثم إن كثيرا من هذه الرقى والتعاويذ ، ونحوها : هي باب من الطب ، كما هو معلوم ، كما أن "الطب النفسي" ، ونحوه : باب من الطب ، وتتوجه هذه الرقى والتعاويذ إلى طب النفوس ، بحسب حالها ، من طيبها ، وخبثها . ولا يلزم من ذلك صحة إيمان الطبيب ، ولا المريض ، ولا أن تكون هذه الرقية مبنية على قاعدة شرعية صحيحة ، بل يكون مبناها على طب القوم ، وتجاربهم ، سواء كان طب الأبدان ، أو طب النفوس .

وأيا ما كان الأمر ؛ فلا علاقة لوجود هذه الرقى ، أو نفعها ، وفائدتها في شفاء الأبدان ، أو طرد الجان .. ، أو نحو ذلك = لا علاقة لذلك كله بصحة إيمان أهلها ، أو بطلانها .

فقد تنفع رقاهم ، وهم كفار . وقد يرقي المسلم غيره ، ولا ينتفع برقياه .

وإنما الإيمان ، وصحته : يطلب من بابه المعلوم ، ووجهه المعروف .

والدين أجل وأعظم من أن تبنى صحته أو بطلانه ، على مثل ما ذكر السائل .

والله أعلم.