أرشيف المقالات

الإعجاز البياني في السنة النبوية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
الإعجاز البياني في السنة النبوية
 
الإعجاز مشتق من العجز والمراد به: الضعف والقصور[1]، والمراد بالبيان: الإفصاح عن المعنى المقصود من غير توسُّع في الكلام بعبارة واضحة.
 
فالإعجاز البياني معناه: الدقة في اختيار الكلمات، وترتيبها بصور بديعة؛ حيث تظهر فيها الفصاحة والبلاغة والبيان بصورة يفهمها القارئ[2].
 
ومن مظاهر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته: أنه صاحب الحكمة البالغة، والكلمة الصادقة، واللسان المبين، وقد فضَّله الله عَزَّ وجَلَّ على غيره من الأنبياء عليهم السلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلَّم بالكلام الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعاني، المشتمل على أعلى صور البلاغة والفصاحة، وبدائع الحكم، ومحاسن العبارات.
 
وقد اتَّصف النبي صلى الله عليه وسلم بصفاتٍ لم تجتمع لأحدٍ قبله ولا بعده، فقد كان أفصح الناس قولًا، وأعذبهم كلامًا، وأحلاهم منطقًا، وأبدعهم لغةً، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويأسر الأرواح، مع قلة حروفه بحيث يعده العاد، ليس بسريعٍ لا يُحفظ، ولا بكلامٍ منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهدي، شهِد له بذلك كل من سمعه، من الموافقين له، والمخالفين له.
 
والأقوال النبوية الصحيحة تمثل ذِرْوة البيان البشري، والبلاغة الإنسانية مبنى ومعنى، مضمونًا وشكلًا، فكرةً وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحِكَم، وحقائق المعرفة، وروائع التشريع، وبدائع التوجيه، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه ما لم يَحوه كلام بليغٍ ولا حكيم، مع سهولةٍ فائقة، وعذوبةٍ رائعة، وحيويةٍ بالغة، جعلت في الكلمات روحًا يسري كما تسري العصارة في الأغصان الحية، وهي أجدر أن توصف بأنها: تنزيلٌ من التنزيل، وقبسٌ من نور الذكر الحكيم، وهذا ما نوَّه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور.
 
وقد خصَّ الله عزَّ وجلَّ نبيه محمدًا بجوامع الكلم، فربما جمع أشتات الحِكَم والعلوم في كلمةٍ واحدة، أو شطر كلمة، وهذا من معجزات النبوة، ومن دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خصَّه الله بجوامع الكلم، وخصَّه ببدائع الحكم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الذي رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ)[3].
 
قال الزهري: بَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ[4].
 
وَقَالَ غَيره المُرَاد الموجز من القَوْل مَعَ كَثْرَة الْمعَانِي[5].
وقال الخطابي: معناه: إيجاز الكلام في إشباعٍ للمعاني، يقول الكلمة القليلة الحروف، فتنتظم الكثير المعنى، وتتضمن أنواعًا من الأحكام[6].
 
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ) - قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - (وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ...
الحديث)
[7].
 
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِه، فَقَالَ: (أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ)[8].
 
قال العز بن عبدالسلام: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه بُعِث بجوامع الكلم، واخْتُصِر له الحديث اختصارًا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته[9].
 
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لسانًا، وأبلغ الناس لفظًا، وأوضحهم بيانًا، وأجودهم إلقاءً، وأحسنهم طريقة، وأذكاهم جنانًا، أوتي جوامع الكلم، وقوة البيان، ودقة الأسلوب، وجمال العبارة، وجزالة الألفاظ، وسمو المعاني، التي يندُرُ مثلها في البشر.
 
وكانت فصاحته صلى الله عليه وسلم في ذِرْوَة الكمال البشري: بُعْدٌ عن التكلُّف في القول، وجزالةٌ في اللفظ، ووضوحٌ في الدلالة، ودِقَّةٌ في الوصف والتعبير، وإبداعٌ في التشبيه والتصوير، وإيجازٌ في القول، ومطابقةٌ لمقتضى الحال، مع العلم بطبائع النفوس وما هي محتاجة إليه.
 
فجوامع الكلم التي خُصَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
 
قال الحسن البصري: لم تترك هذه الآية خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًّا إلا نهت عنه[10].
والثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منتشرٌ موجودٌ في السنن المأثورة عنه[11].
 
ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[12].
 
وقد أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم؛ لأن العرب الذين أُرسل إليهم كانوا مأخوذين بكل فصيحٍ بليغ، متنافسين في حفظ بليغ الشعر والمنثور، هذا فضلًا عن كون كلام النبي صلى الله عليه وسلم دينٌ يتقرَّب المسلم بحفظه والعمل به إلى الله عزَّ وجلَّ، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يحفظون كلامه، ويتلذَّذون بتكريره في مجالسهم، وتبليغه إلى من لم يسمعه منه.
 
فكان صلى الله عليه وسلم يستخدم العبارة المُعجِزة، والإشارة المُفْهِمة، والرسم الدال على المعنى، حتى تفتَّحت قلوب سامعيه للهداية، وامتلأت صدور أصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بتعاليمه، حتى كأنما كُتِبت فيها كتابًا بالكلمة والحرف، فأحبُّوا العلم ونهلوا منه، كلٌّ على قدر استطاعته، ونقلوه إلى الجيل الذي جاء بعدهم من غير زيادةٍ أو نقصان، أو تحريفٍ أو تشويه[13].
 
أمثلة على الإعجاز البياني في السنة النبوية:
ذكر العلماء أمثلةً كثيرة من أقواله صلى الله عليه وسلم التي تؤيِّد ذلك، منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)[14].
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)[15].
3- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ)[16].

4- وقوله صلى الله عليه وسلم: (النَّاسُ مَعَادِنُ)[17].

5- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ)[18].

6- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ)[19].

7- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ)[20].
 
ومن بلاغته وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ما قاله من الكَلِم الذي لم يُسْبَق إليه، ولا قاله أحدٌ قبله ومنه:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ)[21].

2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (حَمِيَ الْوَطِيسُ)[22].
 
ومعنى حمي الوطيس أي: اشتدت الحرب، قال ابن الأثير الجزري: الوطيس: التنور، وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ويُقَال إن هذه الكلمة أول من قالها النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا اشتد البأس يومئذٍ ولم تُسْمَع قبله، وهي من أحسن الاستعارات[23].
 
إلى غير ذلك مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، والتي بلغت من البيان منتهاه، ومن الفصاحة والبلاغة أقصاها، بحيث لا يقارن بها كلام بشرٍ مهما كان بليغًا؛ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا النَّوْعِ أَلْفَاظٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا صلى الله عليه وسلم[24].
 
وليس في العرب قاطبةً من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصَّه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها كالنبي صلى الله عليه وسلم فهو اصطنعه لوحيه، ونصبه لبيانه، وخصَّه بكتابه، واصطفاه لرسالته.


[1] راجع: لسان العرب لابن منظور 5/ 369.

[2] من مقالة على الإنترنت بعنوان: أمثلة على الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

[3] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) 4/ 54 رقم: 2977، ومسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة 2/ 371 رقم: 523.

[4] دلائل النبوة للبيهقي 5/ 471.

[5] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 1/ 99.

[6] أعلام الحديث 2/ 1422.

[7] مسند أحمد 11/ 179 رقم: 6606، وإسناده حسن، وضعَّفه الألباني في إرواء الغليل.

[8] صحيح مسلم 3/ 1586 رقم: 2001.

[9] مُنْيَةُ السُّولِ في تفضيلِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم؛ لأبي محمد عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام، ص 35.

[10] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي 1/ 55.

[11] روائع التفسير (الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي) 1/ 617.

[12] البخاري كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 1/ 6 رقم: 1.

[13] راجع: مقال على موقع الألوكة بعنوان: بواعث الصحابة على خدمة السنة (4) للمؤلف.

[14] الترمذي أبواب البر والصلة باب ما جاء في معاشرة الناس من حديث أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه 4/ 355 رقم: 1987، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

[15] أخرجه أحمد في مسنده 3/ 249 رقم: 1723 من حديث الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وإسناده صحيح.

[16] أخرجه أحمد في مسنده 2/ 268 رقم: 959 من حديث علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وإسناده صحيح.

[17] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) 4/ 149 رقم: 3383، ومسلم كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم باب خيار الناس 4/ 1958 رقم: 2526 كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[18] أبو داود كتاب الأدب باب في المشورة 4/ 333 رقم: 5128 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسنادٍ صحيح.

[19] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 1/ 8 رقم: 7، ومسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1393 رقم: 1773، كلاهما من حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه.

[20] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري كتاب المظالم والغصب باب الظلم ظلمات يوم القيامة 3/ 129 رقم: 2447، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم 4/ 1996 رقم: 2579 كلاهما من حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

[21] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري كتاب الأدب باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 8/ 31 رقم: 6133، ومسلم كتاب الزهد والرقائق باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 4/ 2295 رقم: 2998، كلاهما من حديث أبي هريرة.

[22] مسلم كتاب الجهاد والسير باب في عزوة حنين 3/ 1398 رقم: 1775، من حديث العباس بن عبدالمطلب.

[23] النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 447.

[24] شعب الإيمان للبيهقي 3/ 42.

شارك الخبر

المرئيات-١