عنوان الفتوى : الفرق شاسع بين الابتلاء والمصيبة
كيف يمكن التوفيق بين الآية الكريمة(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وبين الحديث الشريف: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ...فأنا تصيبني المصائب ولست بعاص ومجاهر مع أنه لدي من المعاصي ما يعلم به الله فهل ما أنا فيه هو بلاء نسبة للمقربين من الله أم أنه كما ذكرت الآية الشريفة بما كسبت أيدينا وكيف التوفيق بين الأمرين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا تعارض بين الآية والحديث المذكورين حتى يُوَفَق بينهما، فكلاهما سيق لمعنى غير المعنى الذي سيق له الآخر، ويتضح ذلك بتفسير كل منهما على حدة.
فقد قال المفسرون في تفسير الآية الكريمة : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]
ما يحل بكم من مصائب الدنيا فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم من السيئات والذنوب والآثام، وما عفا الله عنه في الدنيا، أو أخذ به فإنه لا يعاقب عليه في الآخرة، ولذلك فإن الله تعالى اتصف بالرحمة وتنزه عن الظلم.
وقال ابن عطية في تفسيره : روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى أكرم من أن يُثَنِّيَ على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه . رواه أحمد وقال: وقال الحسن : معنى الآية في الحدود: أي ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى.. فإنما هي بكسب أيديكم، ويعفو الله سبحانه وتعالى عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يحد عليه .
وأما الحديث: فهو حديث صحيح، قال البخاري في صحيحه: باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه...
والابتلاء معناه الاختبار والامتحان كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] فالأنبياء هم أكثر ابتلاء واختباراً، وذلك لعلو منزلتهم، وقوة إيمانهم ورفعة مستواهم..
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : لأنهم يتلذذون بالابتلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لَـتُـوُهِّم فيهم الألوهية، ولِيُـتَـوَّهَنَ (يضعف) على الأمة الصبر على البلية، لأن من كان أشد بلاء، كان أشد تضرعاً والتجاء إلى الله تعالى.
وعلى هذا؛ فلا تعارض بين الآية والحديث، لأن معنى الآية أن من ارتكب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا بإقامة الحد عليه أو مصيبة تصيبه، فهذا من كسب يده، أي بسببه هو، ولن يعاقب عليه مرة أخرى في الآخرة، لأنه نال جزاءه في الدنيا.
وأما ما أصاب الأنبياء فهو للابتلاء وزيادة الأجر، ولتأُسي المؤمنين بهم.
والله أعلم.