عنوان الفتوى : تعلق القلب بغير الله والاستعانة بغيره.. الجائز والممنوع
أجد من قلبي أني إذا تعرضت لصدمة، أو ضيق نفسي، أو اكتئاب، فإن قلبي يتذكر شخصا معينا، أو عملا معينا، فيطمئن قلبي ويهدأ، وينشرح صدري ويقوى على تحمل الصدمة، قد يكون الشخص أبي أو أمي أو صديقا أو أي شيء آخر مثل المذاكرة، أو أي عمل، ولكن المشكلة أن ما يتعلق به قلبي إذا فارقني بموت أو خصومة أشعر باكتئاب شديد، وعدم رغبة في الحياة، حتى يجد قلبي شيئا آخر يتعلق به، هل هذا التعلق هو التعلق الشركي؟ وما هو التعلق المحمود بالأشخاص والأشياء؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مجرد التذكر لأحد أقربائك أو لعمل مهم كالدراسة أو غيرها واستئناسك بذلك، وحصول الاكتئاب عند فقده ليس مذموما إن كان قريبك تمكنه مساعدتك، أو كانت الدراسة تسليك عما تعاني منه، وعليك بالإعراض عن الوساس فإن الاسترسال فيها لا يزيدها إلا ترسخا واستشراء.
واعلم أنه يشرع لك أن تباشر الأسباب، وتستعين بمن تمكنه المساعدة، مع حرصك على تعلق القلب بالله تعالى، وعدم التعلق بغيره؛ لأن اعتماد القلب على الله أمر ضروري وواجب في كل أمر من الأمور، ولا يتحقق التوكل الواجب إلا بذلك، وهذا لا يتعارض مع مباشرة الجوارح للأسباب التي ربطها الله بهذا الأمر، فحقيقة التوكل إنما هي ما استقر في القلب من علم وعمل، والعلم هو: معرفة القلب بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر. والعمل هو: اعتماد القلب على الله عز وجل والثقة به،
وقد منع أهل العلم تعلق القلب بغير الله، والاستعانة بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، إن كان ذلك ليس في مقدور الخلق، وأما الاستعانة بالمخلوق فيما تمكنه الإعانة والمساعدة فيه فهي جائزة، إن كان القلب متعلقا بالله، وقد عدوا الاستنكاف عن ذلك من الغلو في البعد عن الأسباب المباحة، فقد جاء في صيد الخاطر لابن الجوزي: ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافرًا، وقال لسعد: لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع، وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم، ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل، أو في زقاق الهوى. اهـ
وقد أحسن ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث يقول: على العبد أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَنَّ السَّبَبَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَقْضِي وَلَا يَحْكُمُ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ، فَيَأْتِي بِالْأَسْبَابِ إِتْيَانَ مَنْ لَا يَرَى النَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ وَالْوُصُولَ إِلَّا بِهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا لَا تُنْجِيهِ، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُ فَلَاحًا، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَيُجَرِّدُ عَزْمَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا حِرْصًا وَاجْتِهَادًا، وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، تَجْرِيدًا لِلتَّوَكُّلِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ يَقُولُ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ» فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُسَبِّبِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكُ تَجْرِيدَهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ ـ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، شَرَائِعُهُ وَحَقَائِقُهُ ـ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّة. انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد: أقسام التعلق بغير الله: الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا معرضًا عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب؛ ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة، الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله عز وجل، وعدم صرف قلبه إليه، فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر؛ لأن هذا السبب جعله الله سببًا، الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقًا مجردًا لكونه سببًا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله عز وجل؛ فهذا لا ينافي التوحيد، لا كمالًا ولا أصلًا، وعلى هذا لا إثم فيه، ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة، ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقًا كاملًا، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبب هو الله سبحانه وتعالى، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله عز وجل. اهـ.
والله أعلم.