عنوان الفتوى : الإجابة عن تعارض بين حديثين بخصوص تحريم مكة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على أن الله عز وجل هو الذي حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، والأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام هو من حرمها؟ فإن قيل إن الله حرمها أولا في سابق علمه ثم أكد تحريمها إبراهيم، فيشكل عليه حديث: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ـ لأن معنى هذا الحديث أن الله حرم مكة في سابق علمه أو فيما كتب قبل أن يخلق السموات والأرض، وهذا يعارض حديث: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ـ لأنه قال: يوم خلق ـ ولم يقل قبل أن يخلق، أرجو التوضيح فقد أشكلت علي هذه الأحاديث. وشكرا لكم.

مدة قراءة الإجابة : 4 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض... الحديث، قد جاء في معناه أن المراد بتحريم الله له يوم خلق السموات والأرض: كتابة ذلك التحريم في اللوح المحفوظ، فيكون على هذا المعنى أخصّ من حديث: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة... الحديث، فتحريم مكة يوم خلق السموات والأرض، وليس قبلها، والله يفعل ما يشاء، قال العلامة ابن دقيق العيد ـ رحمه الله ـ في شرح عمدة الأحكام: وقوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ـ تكلموا فيه، مع قوله عليه السلام: إن إبراهيم حرم مكة ـ فقيل بظاهر هذا، وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعد ما نسيت، والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السموات والأرض، وقيل: إن التحريم في زمن إبراهيم، وحرمتها يوم خلق الله السموات والأرض: كتابتها في اللوح المحفوظ أو غيره: حراما، وأما الظهور للناس: ففي زمن إبراهيم عليه السلام. انتهى.

وقد أجاب بعض أهل العلم على هذا الإشكال الوارد في الجمع بين حديث: إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة، وَإِنِّي دَعَوْت فِي صاعها ومدها بمثلي مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم لأهل مَكَّة ـ وحديث: إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ـ وممن أجاب على ذلك النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم، حيث قال: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض ـ وفي الأحاديث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ مَكَّةَ، فَقِيلَ إِنَّهَا مَا زَالَتْ مُحَرَّمَةً مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقِيلَ مَا زَالَتْ حَلَالًا كَغَيْرِهَا إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ثَبَتَ لَهَا التَّحْرِيمُ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الثَّانِي، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِأَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ خَفِيَ تَحْرِيمُهَا وَاسْتَمَرَّ خَفَاؤُهُ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهُ وَأَشَاعَهُ لَا أَنَّهُ ابْتَدَأَهُ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي غَيْرِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهُ تَعَالَى. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح: فِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ قَضَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا، أَوْ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ. انتهى.

والله أعلم.