عنوان الفتوى : هل التعبير بالخلق لا يطلق إلا على الإيجاد من العدم ؟
قال الله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) . لماذا قال العلماء أن الخلق في الآيات السابقة يعني الصناعة وليس الإيجاد من العدم ؟ ثم هل يصح أن الله خلق الطين أي أوجده بعد أن كان معدوماً ثم صنع منه آدم ؟ ثم هل تصنيع الجنين في بطن أمه هي صناعة وليست إيجاداً من عدم ؟ لأن الله قال "أحسن الخالقين" فجيب أن يكون تخليق الجنين صناعة وليس بإيجاد. كقول النجار "قدمت على شجرة فقطعتها، فجعلت أقسمها، ثم انشر قطعها، فاجعلها طاولات". وهذه صناعة وليست إيجاداً بعد عدم ما رأيكم حفظكم الله ؟
الحمد لله
أولا :
الإيجاد من العدم يسمى خلقا ، وكذلك المخلوقات المتولدة من مادة تسمى خلقا (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، وبعض الخلق أعجب من بعض ، فخَلْق الإنسان من ماء مهين ، يختلف عن خلق آدم من الطين ، وكله من آيات قدرة الخلاق العليم ؛ ثم تكون الحياة في ذلك "الخلق" بنفخ الروح ، التي لم يدرك كنهها ، ولم يقف على سرها ، سوى أحكم الحاكمين : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء/84
وكما أن "الإيجاد" من "العدم" يسمى خلقا ، فتحويل الشيء من صورة إلى صورة أخرى، يسمى "خلقا" أيضا ، في لغة العرب .
فإذا نسب إلى آدمي خلق ، فإنما يكون مقبولا على حد المعنى اللائق به ، وبهذا فسّر العلماء قوله تعالى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون/14.
وأما إطلاق الخلق على الإيجاد من العدم ، ونفخ الروح في الكائنات ، وتحويلها من جمادات ، إلى كائنات حية : فهذا لا يوصف به غير الله سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) النحل/ 17 ، وقال تعالى : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فاطر/ 3 .
قال ابن الجوزي :
" فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وقوله: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ؟
فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير، كقول زهير:
وبعض القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي .
فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين، وقال الأخفش: الخالقون ها هنا ، هم الصانعون، فالله خير الخالقين" انتهى من "زاد المسير" (3/258) .
وقال ابن عطية رحمه الله :
وقوله (أحسن الخالقين) معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا : خلقه . ومنه قول الشاعر:
ولأنْتَ تَفْرِى مَا خَلَقْتَ وبَعـ * ـضُ القَوْم يَخْلُقُ ثمَّ لَا يَفْرِى
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج: إنما قال الخالقين لأنه تعالى قد أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.
ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع ، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم" انتهى من "المحرر الوجيز" (10/340) .
ثانيا :
بما أن كلا الأمرين - "الصناعة والإيجاد من العدم" - يسمى خلقا ، فقد زال الإشكال .
ويبقى اعتقادنا بأن من الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله ، وهو الخلق والإيجاد من العدم ، ومنه ما يُقْدِر اللهُ عليه بعض خلقه ، ولا يختص بالخلاق العليم سبحانه .
وهذا ليس مختصا بصفة الخلق فقط ، بل هناك غيرها من الصفات المشتركة بين الله عز وجل وخلقه ، ولكنها لله عز وجل على وجهها الأكمل على ما يليق به سبحانه وتعالى ، وللمخلوق منها ما يناسب قدراته الضعيفة الضيقة .
قال ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا" أخرجه أبو عبيد "فضائل القرآن" (345) .
وجوّد إسناده ابن كثير في تفسيره (1/43) .
وينظر جواب السؤال (149122) ، (20011) .
والله أعلم .