عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في القصاص من اللطمة والضربة
هل يحق لي ضرب شخص ما قد شتم الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة؟ وهل يحق لي شرعا أن أضربه؟ علما بأنني قد نصحته وحذرته من قول هذا الشيء مرارا وتكرارا، وإذا كنت لا أعرفه وسمعت أنه يشتم، فهل أذهب إليه وأزجره، علما بأنه قد يؤدي إلى تعاركي معه وتأديبه؟ وهل هذا واجب علي؟ وهل يفضل أن أضربه أم أن أنصحه أم أن أشتكيه للجهات المسؤولة؟ وبماذا ننصح هذا الشخص؟ الرجاء ضرب مثال، قلتم إنه نهي عن الضرب على الوجه، فهل إذا ضربني أحد على وجهي يحق لي أن أرد بالمثل؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الساب لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم يجب نصحه ونهيه عن هذا المنكر الفظيع، وحكمه في الشريعة هو القتل؛ ولكن لا يقتله أو يضربه شخص عادي، وإنما يقتله السلطان أو نائبه، وبناء عليه يعلم أنه ليس لك قتله إن لم ينتصح؛ وإنما يمكن أن تبلغ عنه السلطة لتعاقبه إن وجدت محكمة شرعية تؤدب فاعل ذلك، والأولى أن تحرص أنت على نصحه حتى يتوب إلى الله تعالى لعل الله أن يهديه بسببك، ففي حديث البخاري: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.
وأما الضرب على الوجه من باب القصاص: فقد رجح ابن القيم جوازه وأطال في بيان الاستدلال له من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته، فقال في إعلام الموقعين: فصل: هل في اللطمة والضربة قصاص؟ وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخرو أصحاب أحمد: إنه لا قصاص في اللطمة والضربة, وإنما فيه التعزير, وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع, وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة، فإن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل, كما قال تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها ـ وقال: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ـ وقال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ـ فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص, فيجب اعتبارها بحسب الإمكان, والأمثل هو المأمور به, فهذا الملطوم المضروب قد اعتدي عليه, فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به, فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل, وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه, ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها, أو بمثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته, وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومحض القياس وهو منصوص الإمام أحمد, ومن خالفه في ذلك من أصحابه، فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان, قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم له: باب في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة, فقال: عليه القود من اللطمة والضربة، وبه قال أبو داود وأبو خيثمة وابن أبي شيبة، وقال إبراهيم الجوزجاني: وبه أقول, لما حدثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة عن يحيى بن الحصين قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطم أبو بكر رجلا يوما لطمة, فقال له: اقتص, فعفا الرجل. حدثنا شبابة أنبأ شعبة عن مخارق قال: سمعت طارقا يقول: لطم ابن أخ لخالد بن الوليد رجلا من مراد, فأقاده خالد منه. حدثنا أبو بهز حدثنا أبو بكر بن عياش قال: سمعت الأعمش عن كميل بن زياد قال: لطمني عثمان ثم أقادني فعفوت. حدثني ابن الأصفهاني حدثنا عبد السلام بن حرب عن ناجية عن عمه يزيد بن عربي قال: رأيت عليا ـ كرم الله وجهه في الجنة ـ أقاد من لطمة. وحدثنا الحميدي، ثنا سفيان ثنا عبد الله بن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لطمة, ثنا يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم, ولكن إنما بعثتهم ليبلغوكم دينكم وسنة نبيكم ويقسموا فيكم فيئكم، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه, فقام إليه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته لتقصنه منه, فقال عمر: أنا لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟.... وفي السنن لأبي داود والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه، فجرح وجهه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال فاستقد, فقال: بل عفوت يا رسول الله..... فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا إجماع الصحابة, وهذا ظاهر القرآن, وهذا محض القياس, فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا: اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة, والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ونظر الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس, كما هو أتبع للكتاب والسنة, فإن المماثلة من كل وجه متعذرة, فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة, أو تعزير بعيد منها, والأول أولى، لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها, بل قد يعزر بالسوط والعصا, وقد يكون لطمه, أو ضربه بيده, فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد, وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تحر للمماثلة بحسب الإمكان, وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به وأنزل به الكتاب والميزان، فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقدره, وقد يساويه, أو يزيد قليلا, أو ينقص قليلا, وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف, كما لا يدخل تحت التكليف المساواة في الكيل والوزن من كل وجه، كما قال تعالى: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ـ فأمر بالعدل المقدور, وعفا عن غير المقدور منه، وأما التعزير فإنه لا يسمى قصاصا, فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة, ومنه قص الأثر إذا اتبعه، وقص الحديث إذا أتى به على وجهه. اهـ.
والله أعلم.