عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في القصاص من الوالد

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل يجوز لوالد البنت، قتل ابنته بدون سبب؟ وإذا كان الجواب: لا. فماذا يفعل به؟ هل يقتلونه؟ ومن الذين يجب أن يعفو عنه، حتى لا يقام عليه الحد؟

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: 

فالقتل العمد من أكبر الكبائر -عياذا بالله-؛ قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {النساء:93}.

فتعمد الوالد قتل ابنته من أكبر المحرمات، واختلف العلماء هل يقتص منه أو لا؟ فذهب مالك إلى أنه إن تعمد القتل اقتص منه، ووافقه شيخ الإسلام ابن تيمية. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتص منه إذا قتل ولده.

ونحن ننقل لك الخلاف في هذه المسألة، كما في المغني لابن قدامة.

جاء فيه ما عبارته: مَسْأَلَةٌ: قَالَ: -يعني أبا القاسم الخرقي- (وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِنْ سَفَلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَالْجَدُّ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ، أَوْ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْتَلُ بِهِ؛ لِظَاهِرِ آيِ الْكِتَابِ، وَالْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَدْ رَوَوْا فِي هَذَا الْبَابِ أَخْبَارًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ قَتَلَهُ حَذْفًا بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِنْ ذَبَحَهُ، أَوْ قَتَلَهُ قَتْلًا لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ عَمَدَ إلَى قَتْلِهِ دُونَ تَأْدِيبِهِ، أُقِيدَ بِهِ.

 وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ». أَخْرَجَ النَّسَائِيّ حَدِيثَ عُمَرَ، وَرَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، مُسْتَفِيضٌ عِنْدَهُمْ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ وَقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَنْ الْإِسْنَادِ فِيهِ، حَتَّى يَكُونَ الْإِسْنَادُ فِي مِثْلِهِ مَعَ شُهْرَتِهِ تَكَلُّفًا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَمْلِيكُهُ إيَّاهُ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِيَّةِ، بَقِيَتْ الْإِضَافَةُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ إيجَادِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَلَّطَ بِسَبَبِهِ عَلَى إعْدَامِهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَخُصُّ الْعُمُومَاتِ. انتهى.

ورجح العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- أن الوالد يقاد بولده، فقال: ولننظر في هذه الأدلة، أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص.

وأما تعليلهم النظري: فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل.

والصواب: أنه يقتل بالولد، والإمام مالك ـ رحمه الله ـ اختار ذلك، إلاّ أنه قيده بما إذا كان عمداً، لا شبهة فيه إطلاقاً، بأن جاء بالولد وأضجعه وأخذ سكيناً وذبحه، فهذا أمر لا يتطرق إليه الاحتمال، بخلاف ما إذا كان الأمر يتطرق إليه الاحتمال فإنه لا يقتص منه، قال: لأن قتل الوالد ولده أمر بعيد، فلا يمكن أن نقتص منه إلاّ إذا علمنا علم اليقين أنه أراد قتله.

والراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة، لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم، ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده، لا سيما إذا كان والداً بعيداً، كالجد من الأم، أو ما أشبه ذلك، ويقتله ما دام أنه لن يقتص منه. انتهى.

 وإذا تقرر هذا، فإذا تعمد الوالد قتل ولده، لزمته الدية لورثته، ولا يقتص منه عند الجمهور، وعلى القول بأنه يقتص منه. فإن عفا أحد الورثة عن حقه في القصاص، تعينت الدية ولم يقتص منه، وذلك أن أولياء الدم مخيرون بين القصاص، وأخذ الدية، والعفو مجانا، فإذا اختار واحد منهم العفو مجانا، أو أخذ الدية، فلا قصاص إذاً.

جاء في الروض مع حاشيته لابن قاسم: وإن عفا بعضهم سقط القود، أي وإن عفا بعض مستحقي القصاص، سقط القصاص.

قال في الإنصاف: وإن قتله الباقون عالمين بالعفو، وسقوط القصاص، فعليهم القود، وإلا فلا قود عليهم، وعليهم ديته بلا نزاع، انتهى.

وتقدم الإجماع على جواز العفو وأنه أفضل، والقصاص حق لجميع الورثة، من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، الكبار والصغار، ومن عفا منهم صح عفوه عند أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة والشافعي، لقوله «فأهله بين خيرتين» والزوجة من أهله.

قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال، سقط القصاص، وانتقل الأمر إلى الدية، وإن عفت امرأة فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: يسقط القود، واختلفت الرواية عن مالك، والمشهور عنه أنه للعصبات خاصة، وهو رواية عن أحمد واختاره الشيخ. انتهى.

والله أعلم.