عنوان الفتوى : هل وقع التحدي بالإتيان بمثل الكتب السابقة للقرآن؟
لدي شبهة تراودني في العقيدة، وهي على نحوين: الأول: هل امتحن الله القوم الذي أنزلت فيهم الكتب السماوية بتحد؛ أي أن الله تعالى تحدى الكفار بالزبور، أو بالإنجيل، أو بالتوراة على أن يأتوا بمثله؟ وهل وضع الله الإعجاز في هذه الكتب بألا يستطيع أحد الإتيان بمثلها، كالقرآن؟ وإذا قام أحد وقال: " أليس لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن، إذن فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل التوراة، والإنجيل، والزبور؛ لأنه لو كان أحد يستطيع لقام، وأتى بما عنده، ولم يأت أحد، فمن ثم يقول القائل بعصمة هذه الكتب، وعدم صحة ما ورد في القرآن من تحريف لها؟ أرجو تناول كل الأسئلة بدقة، وعدم إهمال أي جزء منها - جزاكم الله خيرًا -.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث للثقلين الإنس والجن جميعًا، وأما من سبقه من الأنبياء ـ عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه ـ فكل واحد منهم بُعث إلى قومه خاصة، ولم تتعدهم رسالته، مما ترتب عليه محدودية معجزته، وقصورها على زمن معين، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 14240.
قال الأستاذ الدكتور محمد السيد جبريل في رسالته: عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: اختصاص النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الباقية خلافًا للرسالات السابقة يأتي إيضاحه وتعليله في حديثه صلوات الله وسلامه عليه: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" رواه البخاري. وفي معنى الحديث أقوال تصح في مجملها، ولعل أوضحها أن المراد: أن معجزات الأنبياء السابقين انتهت بانتهاء عصورهم، فلم يعاينها إلا من حضرها، أما معجزة القرآن فهي باقية إلى يوم الدين، فهو في كل عصر خارق للعادة في أسلوبه، وبلاغته، وسائر وجوه إعجازه، ومنها إخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر شيء مما أخبر به أنه سيكون، يدل على صحة دعواه، وكذلك فالمعجزات الماضية كانت حية تشاهد بالأبصار، وأما القرآن فمعجزة عقلية تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول؛ ولهذا رد الله تعالى على المشركين طلبهم لخوارق الآيات، وسؤالهم المعجزات بكفاية القرآن، وعدم الحاجة إلى غيره من الآيات، وذلك في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:50،51). اهـ.
وقد ذكر العلامة الطاهر ابن عاشور في مقدمة (التحرير والتنوير) الحديث السابق: « ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر .. » وقال: فيه نكتتان غفل عنهما شارحوه: ـ الأولى: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ما مثله آمن عليه البشر» اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص، كان قومه أعجب به، وأعجز عنه، فيؤمنون على مثل تلك المعجزة.
ـ الثانية أن قوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما كان الذي أوتيت وحيًا» اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال، كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالًا لا أقوالًا، كقلب العصا، وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر، ويتدبره.
ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا» إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيًا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعًا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان؛ حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أممًا كثيرين على اختلاف قرائحهم، فيكون هو أكثر الأنبياء تابعًا لا محالة. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز في كتابه الفذ: النبأ العظيم تحت عنوان: سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة): والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم. اهـ.
وقال الشيخ مناع القطان في: مباحث في علوم القرآن: تحدى رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بالقرآن، وقد نزل بلسانهم، وهم أرباب الفصاحة والبيان، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فثبت له الإعجاز، وبإعجازه ثبتت الرسالة، وكتب الله له الحفظ، والنقل المتواتر دون تحريف أو تبديل، ولم تكن هذه الميزة لكتاب آخر من الكتب السابقة؛ لأنها جاءت موقوتة بزمن خاص، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور فهد الرومي في كتابه: دراسات في علوم القرآن: مرت بالقرآن أحداث عظيمة، وأهوال جسيمة، وعوامل خطيرة، وتكالب عليه الأعداء، وتداعت عليه الأمم، ولو مر بعض ذلك على غير القرآن لأصابه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف، والتغيير، والتبديل. أما القرآن فقد مر بهذه الأحوال المتماوجة، والدواعي المتكالبة، ولم تنل منه بغيتها، بل وصل إلينا كما أنزله الله، لم يتبدل، ولم يتغير، ما طالته الأفواه النافخة، ولا نالته الأصوات اللاغية؛ ليتم الله نوره ولو كره الكافرون.
وقد كانت هذه الآية بالنسبة للصحابة - رضي الله عنهم - خبرًا، ولكنها الآن خبر ومعجزة، معجزة أن مر خمسة عشر قرنًا ولم يقع ما يخالفها، وخبر بأن الحفظ مستمر إلى يوم القيامة.
أما الكتب السابقة فلم يتعهد الله بحفظها، بل أوكل أمر حفظها إلى أهلها، فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}. اهـ.
وقال الشيخ على الطهطاوي في: عون الحنان في شرح الأمثال في القرآن: هذا الإعجاز خاص بالقرآن دون الكتب السابقة، فكل واحد منها وإن تعين صدقه بأن صدق الله تعالى مبلغه بأن أظهر على يديه من المعجزات القاهرة، ليس معجزًا مصدقًا لنفسه، ومن هنا ـ أي: من حيث إن القرآن العظيم مصدق لنفسه بسبب كونه معجزًا ـ كان مصدقًا للكتب المتقدمة، معيارًا عليها، شاهدًا على مضمونها، وصحتها. اهـ.
وبذلك يتضح أن الإعجاز والتحدي غير واقع بغير القرآن، فلم يحصل أصلًا وقوع التحدي في نصوص الكتب السابقة أو على لسان أنبيائهم، ليقال: (لو كان أحد يستطيع لقام وأتى بما عنده ... ) !! هذا مع ما هو معلوم من التناقض والاختلاف الشديد بين النسخ المتعددة للتوراة والإنجيل، وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 2105، 20706، 29326، وراجع للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 20138، 27843، 156833.
والله أعلم.