عنوان الفتوى : معنى قوله تعالى: (لا مبدل لكلماته) مع وقوع التحريف في الكتب السابقة
قوله تعالى: لا مبدل لكلمات الله ـ ونحن نقول إن الإنجيل تم تحريفه، أرجو التوضيح، ولماذا أحرق سيدنا عثمان باقي المصاحف التي تخالف المصحف العثماني إن لم تكن هناك أي نصوص محرفة بها؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إخبار الله جل وعلا بأنه لا مبدل لكلماته قد جاء في عدة مواطن من كتاب الله جل وعلا، منها قوله سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ {الأنعام:34}.
وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنعام:115}.
وقوله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {يونس:64}.
وقوله تبارك اسمه: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا {الكهف:27}.
وقد اختلف في بعض هذه المواطن هل المراد بالكلمات الكلمات الكونية بمعنى ما يقضيه الله ويقدره، أو الكلمات الشرعية بمعنى ما يوحيه الله من دين وشرع، ولا نريد أن نطيل بذكر خلاف المفسرين في ذلك، فالشبهة التي ذكرتها في سؤالك مبنية على أن المراد بالكلمات هي الكلمات الدينية بمعنى الوحي، فنجيب بناء على التسليم بهذا، فنقول: إن المراد بنفي التبديل في الكلمات الدينية ليس هو الإخبار بعدم وقوع التحريف للكتب التي أنزلها الله، كلا! بل المراد بذلك أمران:
أولهما: نفي إمكان أن يأتي أحد بما يبطل وحي الله، أو ينقضه، أو يظهر فيه نقصا أو خللا حقيقة.
الثاني: النهي عن تبديل أوامر الله جل وعلا الشرعية وأحكامه، والزجر عن تحريفها، وتغييرها.
كما قال ابن عاشور: انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يظهر أن فيه ما ليس بتمام، فإن جاء أحد بما ينقضه كذبا وزورا، فليس ذلك بنقض، وإنما هو مكابرة في صورة النقض، بالنسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاء ما يبطل معانيه وحقائق حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكم به، وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النهي عن أن يخالفه المسلمون. اهـ.
وكلام ابن عاشور وإن كان عن القرآن العظيم، إلا أنه يسري أيضا على وحي الله جل وعلا جميعه، وعلى كتبه التي أنزلها كلها، فجميعها لا يمكن لأحد أن يأتي بما ينقضها ويبطلها، وقال ابن عثيمين: وقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ـ يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: كن ـ في أمر كوني، فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها، والنفي هنا ليس نفياً للوجود ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه {الفتح: الآية15} قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله. اهـ.
وأما ما يتعلق بحرق عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ والصحابة متوافرون ـ للمصاحف التي تخالف المصحف الذي جمعه: فإنما كان ذلك من أجل جمع الناس على مصحف واحد، درءا للاختلاف والتنازع، ولأن بقية المصاحف لم تكن تخلو من آيات منسوخة في العرضة الأخيرة التي عارضها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، ولم يبلغ ذلك النسخ أصحاب تلك المصاحف، قال الدكتور مساعد الطيار في كتابه المحرر في علوم القرآن: يمكن استخلاص عمل عثمان من الخبر الذي رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما كالآتي:
1ـ سبب الجمع، والذي دعا إليه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ـ وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ـ فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
2ـ أن القصد من هذا العمل نسخ مصاحف من مصحف أبي بكر، الذي هو أصل العمل: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، كانت المصاحف عند عمر ـ رضي الله عنه ـ ثم عند حفصة رضي الله عنها بعده، فأخذها عثمان رضي الله عنه بقصد نسخ مصاحف من هذا المصحف، ولم يكن له هدف آخر كالانتخاب منه، كما يذهب إليه بعضهم.
3ـ تكوين لجنة لهذا العمل العظيم: فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، يلاحظ أنَّ ثلاثة منهم مكيُّون، والرابع مدنيٌّ، وهو زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ويلاحظ أنه نصَّ على عملهم، وهو النسخ فحسب.
4ـ المنهج المتبع في الرسم حال الاختلاف: وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، أرشدهم عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى ما يعملونه حال اختلافهم في رسم كلمة ما، بدلالة قوله فاكتبوه، أي: فارسموه بطريقة نطق قريش التي نزل القرآن أول ما نزل بلغتها.
5ـ إلزام الناس بما نُسِخ من مصحف أبي بكر، وأمرهم بتحريق مصاحفهم: وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، إن هذا الإلزام أمر مهمٌّ للغاية، فهذا القرآن الذي قرأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكُتب في عهده، وكانت عليه العرضة الأخيرة، وجمعه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في مصحف، ثمَّ نسخت منه اللجنة التي اختارها عثمان رضي الله عنه، وما عداه فهو مما تُرك في العرضة الأخيرة، ولم يُقرأ به، ومن ذلك عدد لا بأس به من الآيات التي حكى الصحابة أنها كانت مما يُقرأ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وبقيت حتى الإلزام بهذا الجمع، لأنه ليس كل واحدٍ من الصحابة بلغه ما تُرك من النازل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا زال يحفظه ويقرأ به، لكن لما أجمع الصحابة على هذا المصحف، عُلِم أنه هو الذي ثبت في العرضة الأخيرة فحسب وما عداه مما قد تنقله كتب الآثار يكون مما تُرك لا محالة، والله أعلم، وهذا الإلزام سيكون حاسماً قاطعاً للخلاف، لاتفاق المصدر، فلو خرج شامي وعراقي مرة أخرى، وأثبت كل واحد منهما قراءته بما بعث به عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإن الحال هنا إلى أن الصادر عن المدينة مما اتفق عليه الصحابة أنه قرآن بهذا الاختلاف الثابت فيه، أما قبل ذلك فلم يكن لهم مرجع معين، فكلٌّ ينسب القراءة إلى من قرأ عليه من الصحابة، وهم يقرؤون بالثابت والمتروك لعدم علمهم بتركه. اهـ باختصار.
وراجع لمزيد البيان الفتوى رقم: 94872، وإحالاتها.
والله أعلم.