عنوان الفتوى : النسيان.. حقيقته.. نسبته.. وأسبابه
هل الأشياء التي حدثت لي أو سوف تحدث كلها أمور مكتوبة؟ وهل النسيان وعدم الانتباه والندم وغير ذلك من المشاعر... أمور خارجة عن إرادتي وتعتبر أمورا قدرها الله وكتبها علي ولا طاقة لي بالأمور التي نسيتها، لأنها أشياء مقدرة علي ومكتوبة قبل أن أخلق مثل الرزق، والله أمر القلم بكتابتها؟ وهل الله كتب علي نسيان هذا الشيء وعدم الانتباه له ـ رفعت الأقلام وجفت الصحف؟ أم أن النسيان غير مقدر وأنا من أتحكم فيه أو الشيطان وليس مكتوبا علي، لأنني أفكر في شيء وفجأة أنساه ولا أستطيع تذكره؟ وهل الله كتب علي ذلك أم ماذا؟. وشكرا لكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل ما يجري للإنسان مقدر سلفا، ومكتوب في اللوح المحفوظ، ومن جملة ذلك الأمور التي يكون للمرء فيها كسب واختيار، فلا يخرج ذلك عن قضاء الله وقدره! وراجعي للفائدة الفتويين رقم: 12638، ورقم: 16183.
ومن جملة ذلك أيضا: النسيان، فهو من الأمور المقدرة، وكذلك أسبابه إن وجدت، وذلك أن النسيان قد يحصل بتفريط من الإنسان بالغفلة وعدم التعاهد، وقد يحصل دون تفريط منه، كما في حديث عمر بن الخطاب أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: ربما شهدت وغبنا، وربما غبت وشهدنا، فهل عندك علم بالرجل يحدث بالحديث إذا نسيه استذكره؟ فقال علي رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء، وبينما الرجل يحدث إذ علته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكره. رواه أبو نعيم في الحلية، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني.
والنسيان تصح نسبته للإنسان بالاكتساب، وللشيطان بالتسبب، هذا مع أصل نسبة الإنساء إلى الله تعالى بالخلق والتقدير، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: لكل إضافة منها معنى صحيح في كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله، فلأنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه، فلأن النسيان فعل منه مضاف إليه من جهة الاكتساب والتصرف، ومن نسبه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة في الصدور وحديث الأنفس بما جعل الله للشيطان من السلطان على هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح. اهـ.
وقد جاءت النسبتان للإنسان وللشيطان في قوله تعالى: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ {الكهف: 63}.
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: من وسوسة الشيطان أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. اهـ.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: قوله في هذه الآية الكريمة: وما أنسانيه إلا الشيطان ـ دليل على أن النسيان من الشيطان، كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ـ وقوله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ـ الآية... وقوله عن صاحب يوسف: فأنساه الشيطان ذكر ربه. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت ـ ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله عز وجل قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى، لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره {الكهف: 63} وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله سبب للذكر ولهذا قال: واذكر ربك إذا نسيت. اهـ.
وقال ابن عرفة في تفسيره: قد يكون النسيان من الله تعالى، وقد يكون من الشيطان، فنسيه هنا للشيطان ظنا منه، وإلا فيكون الله تعالى أنساه ذلك لما أراده من اطلاعه على الخضر. اهـ.
وقد رد الشنقيطي في الأضواء قول الزمخشري والرازي في نسبة الإنساء إلى الله تعالى في قوله: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ {الحشر: 19} ثم قال: الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني، وأنها كلها من الله: قل كل من عند الله ـ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ـ فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله، كما في قوله تعالى: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ـ ثم قال: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ـ فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام: وإذا مرضت فهو يشفين ـ تأدبا في الخطاب مع الله تعالى. اهـ.
والله أعلم.