عنوان الفتوى : هل نقلت لنا خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟
عند تصفحي للمواقع الدينية وجدت هذا السؤال: لماذا لم يرو لنا البخاري خطب الجمعة للرسول عليه الصلاة والسلام ، مع العلم حاولت البحث ولم أجد جوابا ؟
الحمد لله
رواية الصحابة لما سمعوه وشاهدوه وعايشوه من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم
وأفعاله وتقريراته وأحواله ، غطت جميع التفاصيل المهمة في الدين، التي هي جزء أساسي
في شريعة الإسلام، وذلك من مقتضيات إكمال الدين الذي أخبر الله عز وجل عنه في كتابه
الحكيم: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة/ 3، وهي في الوقت نفسه
رواية شهود بمعنى أن جميع الرواة من الصحابة الكرام، قام كل منهم بنقل ما حفظ في
وعيه من مشاهد خاصة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المطهرة، فأداها كما سمعها
وعلمها بعد أن رُكزت في ذهنه ، ولا شك أن الذي يركز في الذهن هو جزء محدود من مشهد
طويل ، يجد فيه الراوي الأهمية التي بعثته حينها على حفظ انطباعه عن ذلك المشهد .
فقد يحضر الصحابي معركة ما، ويقاسي فيها صعابا عديدة، ويعاني أيضا مشاهد جليلة، لكن
الذي ينطبع في ذهنه منها مما يراه مؤسسا لفائدة مهمة للنشر جزء معين منها، ولقطات
خاصة من تلك الأيام الطويلة للمعركة ، فيقتصر على تلك الرواية التي توحي لنا ببقية
الأحداث ، وتركز تلقينا على جزء خاص، يتناوله العلماء بعد ذلك بالدرس والتحليل.
وبهذا نعلم أن الرواية ليست كاميرة فيديو مسلطة على مدار الساعة واليوم والأسبوع
والدهر لتفاصيل شؤونه عليه الصلاة والسلام، وليست نقلا مطلقا مكررا لكل لحظة في
حياته صلى الله عليه وسلم، بل هي حركة إخبارية واعية ومركزة وكافية في نقل ما يحتاج
إليه المسلمون في شؤون دينهم العظيمة.
ومن هنا يتبين أن المطالبة بالوقوف على جميع خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالرقم
والتاريخ، من حين صعوده وحتى نزوله عن المنبر، هي مطالبة متكلفة متعنتة، لا تقدِّر
حدَّ الطاقة البشرية المتيسرة في ذلك الوقت لعملية الاستدعاء التاريخي والتدوين
التوثيقي والأرشيفي، ولا تدرك الغاية مِن علم الحديث كله رواية ودراية، وأنه وُجد
لنقل الشريعة النبوية القولية والعملية فيما يحتاج إليه الناس، وليس لكل ما وقع في
ذلك العهد.
نقرر هذا على سبيل التقدمة التمهيدية، وإلا فقد نقل الصحابة الكرام لنا الكثير جدا
من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، سواء خطب الجمعة أم الأعياد أم خطب المواقف
الجليلة، كلها امتلأت بها كتب السنة ومصادر الحديث على تنوعها وتعددها، منها
الروايات المختصرة، ومنها الروايات المطولة. ومنها ما يركز الراوي فيها على جانب
معين يسوق الحديث لأجله، بحسب المناسبة التي واجهها هذا الراوي فاقتضت منه التحديث
بما رأى وما سمع، وبحسب تلقي أصحابه وتلاميذه عنه، فتناقلوا الرواية والحكاية مع من
يليهم عن غير تخطيط خاص لتغطية مناسبة معينة من ألفها إلى يائها، وهكذا حتى تتم
العملية النقلية باجتماع المشهد من قبل العديد من الرواة.
ولكثرة ما نقل الرواة من خطب النبي صلى الله عليه وسلم قام جماعة من العلماء بجمع
تلك الخطب في مصنفات خاصة وعديدة، نحن نسردها هنا لنؤكد للقارئ أن ما ينشره بعض
الناس من فَقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم وضياعها إنما هو محض مغالطة ، يلقيها
أحد الطاعنين، ويتلقاها بعض العامة بالتصديق والتسليم ، وهي في حقيقتها مغالطة
واضحة . فمن تلك الكتب:
1. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي بن محمد المدائني (ت224هـ)
2. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم"، لأبي أحمد العسّال (ت 349هـ).
3. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم"، لأبي الشيخ الأصبهاني (ت369هـ) .
4. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم"، لأبي نُعيم الأصبهاني (ت430هـ) .
5. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم"، لأبي العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت432هـ)
6. "الخُطب الأربعون المعروفة بالوَدْعانية"، جمعها القاضي أبو نصر محمد بن علي بن
ودعان الموصلي (ت 494هـ).
7. "خُطب الرسول صلى الله عليه وسلم"، لأبي العباس الخضر الإربلي الشافعي (ت567هــ)
.
8. "خُطبة الوداع"، لأبي العباس نصر بن أحمد الإربلي الشافعي (ت619هـ)
9. "موعظة الحبيب وتحفة الخطيب"، لعلي القاري الحنفي (ت1014هـ) .
10. "الخُطب المصطفوية"، لمحمد علي أكرم الآروي.
11. "خُطب النبي صلى الله عليه وسلم"، لعبد الباسط بن علي الفاخوري، مفتي بيروت
(ت1324هـ) .
12. "خُطبات محمدي"، لمحمد بن إبراهيم الجوناكرهي (ت1360هـ) .
13. "الخُطب المأثورة"، لأشرف علي التهانوي (ت1362هـ) .
14. "مجموع من الخُطب النبوية"، لعيسى البيانوني (ت1362هـ) .
15. "إتحاف الأنام بخُطب رسول الإسلام"، لمحمد بن خليل الخطيب. وتاريخ مقدمته
1373هـ.
16. "خُطب سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته"، لمحمد شفيق الأرواسي (ت1970م)
.
17. "خُطبات النبي صلى الله عليه وسلم"، لحبيب الرحمن الأعظمي.
18. "خطب الجمعة"، جمعية المكنز الإسلامي.
19. "خطب النبي صلى الله عليه وسلم جمع ودراسة"، رسالة ماجستير في الجامعة الأردنية،
سنة1420هـ، لعبد الملك بن سالم السيابي.
20. "خُطب الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: دراسة توثيقية تحليلية"، رسالة
ماجستير تقدَّمَ بها مصعب نوري محمود العزاوي إلى كلية التربية في جامعة بغداد سنة
(2004م).
21. "خطب الرسول صلى الله عليه وسلم: جمعها وتبويبها ودراستها"، للدكتور عمر
القطيطي التونسي.
22. "خطب الرسول صلى الله عليه وسلم"، لمجدي الشهاوي.
23. "خطب الرسول صلى الله عليه وسلم/676 خطبة من روائع كنوز النبوة مع دراسة في فن
الخطبة"، لنواف الجراح، دار صادر.
24. "خطب الرسول"، لعبد الحميد شاكر.
وللوقوف على مصادر سرد أسماء هذه الكتب يرجى مراجعة الرابط الآتي، وقد أضفنا لها
هنا مجموعة من الدراسات المهمة:
http://www.alukah.net/culture/0/100366/#popup1
ونعتقد أن أعداد هذه الكتب المتنوعة ما بين المتقدمين والمتأخرين، والكتب الشاملة
أو المنتقاة، والدراسات البحثية الأكاديمية وغيرها، توحي للقارئ بحجم النقل الضخم
الذي تم على خطب النبي صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي اقتضى كل هذا التأليف، بل
اقتضى تأليفا خاصا بدراسات أخرى حديثة تسلط الضوء على الجوانب التربوية أو البلاغية
أو المجتمعية أو غيرها من الجوانب المستقاة من خطبه عليه الصلاة والسلام. وحتى قال
محمد خليل الخطيب – أحد المؤلفين السابق ذكرهم -: "جمعتها [يعني الخطب] في سنين
عديدة...وكم قرأت في سبيلها من كتب في التاريخ والسيرة واللغة والأدب" انتهى من
"إتحاف الأنام من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم" (ص5) .
وقد نَقَلَت لنا بعض كتب السير والتاريخ خطبا متكاملة للنبي صلى الله عليه وسلم،
بأسانيد محتملة للتحسين في هذا المقام.
فمن ذلك ما جاء في "تاريخ الرسل والملوك" للطبري ( 2/394 – 396 )، قال: حدثني يونس
بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة
النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة، في بني سالم بن عمرو بن عوف
رضي الله عنهم:
(الحمد لله، أحمده، وأستعينه ، وأستغفره، وأستهديه، وأؤمن به، ولا أكفره، وأعادي من
يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله
بالهدى، ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من
الناس ، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله
فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً.
وأوصيكم بتقوى الله ، فإنه خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ : أن يحضه على الآخرة،
وأن يأمره بتقوى الله ، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ، ولا أفضل من ذلك نصيحة ،
ولا أفضل من ذلك ذكرى ، وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه ، عون صدق
على ما تبغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية
، لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكراً في عاجل أمره ، وذخراً فيما بعد الموت ،
حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود: لو أن بينه وبينه أمداً
بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله وأنجز وعده لا
خُلْفَ لذلك، فإنه يقول تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق:29] .
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله فقد فاز
فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله
تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم
الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا
في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي
عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من
أصلح ما بينه وبين الله، يكفه ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي على الناس
ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم)
ورواه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/523- 525) بإسناد آخر.
قال ابن كثير رحمه الله:
"هذه الطريق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها ، وإن اختلفت الألفاظ" .
انتهى من "البداية والنهاية" (3/20) .
وإذا كان قصد السائل هو الاستفهام عن الإمام البخاري خاصة، وعن سبب عدم تخريجه خطب
النبي صلى الله عليه وسلم، وليس غرضه نقل اتهام بعضهم لروايات السنة بالنقص
والضياع.
فالجواب عن ذلك التساؤل واضح أيضا والحمد لله، وهو أن البخاري لم يلتزم إخراج جميع
الأحاديث الصحيحة، بل تشدد في شرطه، وصرح بذلك، فأخرج جزءا من الأحاديث، ولم يدع
أنه أخرج كل الأحاديث ولا جلها، فكان اللجوء إلى كتب السنة الأخرى العديدة
والموسوعية ، هو الحل للبحث عن الأخبار والروايات، ومن ثم دراستها صحة وضعفا.
يقول الإمام البخاري رحمه الله:
"تركت من الصحاح الطوال لحال الطول [يعني في كتابه]" انتهى من "الكامل في ضعفاء
الرجال" لابن عدي (1/226) .
ويقول الإمام الحازمي رحمه الله:
"أما البخاري فلم يلتزم أن يخرج كل ما صح من الحديث حتى يتوجه عليه الاعتراض ، وكما
أنه لم يخرج عن كل من صح حديثه ، ولم ينسب إلى شيء من جهات الجرح ، وهم خلق كثير،
يبلغ عددهم نيفا وثلاثين ألفا؛ لأن تاريخه يشتمل على نحو من أربعين ألفا وزيادة ،
وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس ، ومن خرجهم في جامعه دون ألفين . وكذا لم يخرج
كل ما صح من الحديث... فقد ظهر بهذا أن قصد البخاري كان وضع مختصر في الحديث ، وأنه
لم يقصد الاستيعاب لا في الرجال ولا في الحديث" انتهى من "شروط الأئمة الخمسة"
(ص48-52) .
بل هكذا كان يصنع الرواة أنفسهم في عصر الرواية، ينقلون ما يرونه مناسبا من الحديث
الطويل، ويفرقون في أحيان كثيرة ما يعلمونه من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في
مجالس عديدة، فيسمعه عنهم رواة كثر، كل منهم يسند الجزء الخاص الذي سمعه من شيخه
الصحابي، وذلك يعني أن السائل الكريم، لو فتش في كتب "خطب النبي صلى الله عليه
وسلم" السابقة، فوجد أكثرها خطبا مختصرة، فلا ضير في ذلك بحال من الأحوال؛ لأن ما
تبقى من الخطبة، إن كان مما فيه تشريع أساسي وديانة ضرورية، فلا بد وأن الصحابي
الكريم نقل ذلك التشريع في موقف آخر، فحفظ في حديث آخر، ليس باسم خطبة الجمعة ، بل
بالاسم والسياق الآخر الذي ناسب أن يسوق فيه الحديث.
يدل على ذلك ما جاء في حديث أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه أنه قال: " صَلَّى
بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، وَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ
صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتْ الْعَصْرُ ، ثُمَّ نَزَلَ
فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ،
فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِن،ٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا "
أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم/2892)
فتأمل كيف يخبر الراوي عن تفاوت الصحابة الكرام في حفظ هذه الخطبة الطويلة جدا،
ولكنه أثبت حفظها ، وتعلم الناس مضمونها، ولكن تم نثر هذا الحفظ الطويل في سياقات
عديدة، وأحاديث مختصرة، كل بحسب موضوعه وسياقه.
هذا ما تقتضيه الدراسة الموضوعية لطبيعة النقل الحديثي.
وإذا كان المقصود الغالب من الخطبة هو الوعظ والتذكير بالله تعالى ، فلا ضير لو لم
ينقل الصحابة الكرام حثَّه عليه الصلاة والسلام على صلة الأرحام مثلا في كل مقام
خطبه، بل يكفي أن تنقل بعض تلك المقامات حتى تقوم الحجة على الأمة في هذا الواجب
العظيم، وهو ما فعله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
وإذا كانت صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ونص خطبة الوداع، التي شهدها آلاف
الصحابة الكرام، لم يروها سوى جماعة معدودين منهم، على تفاوت بينهم في روايتها من
جهة الطول والقصر، والإجمال والتفصيل، فمن باب أولى أن يقع ذلك للخطب الأخرى التي
لم تكن بمستوى الأهمية الخاصة بخطبة الوداع.
هذه أوجه يسيرة، نسوقها في حوار من يطلق التهم جزافا، ولا يدرك حقيقة علوم الحديث
ونقد المرويات في تأسيسها وفلسفتها وتاريخها، وإلا فالأمر والحمد لله ظاهر للباحثين
الموضوعيين وأصحاب الاختصاص.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |