عنوان الفتوى : ما الواجب فعله على من دعا على غيره فمرض المدعو عليه
لي قريبة كانت تزعجني، وكنت أدعو عليها باستمرار رغم أن المشاكل كانت عادية، وهي مريضة الآن، وأشعر بالذنب وأتمنى أن تسامحني لكن ليست لدي الشجاعة لطلب العفو منها، وأدعو لها بالشفاء، ومرضها صعب، فما الذي يمكنني فعله، لأنني أشعر أن مرضها بسبب دعائي؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالجمهور على وجوب استحلال المظلوم في الحقوق المعنوية، خلافا لطائفة من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم، كما قرره الأخير في كتاب التوبة له، والسفاريني في غذاء الألباب، وأشرنا إليه في الفتوى رقم: 18180.
والأحوط قول الجمهور لإطلاق الأمر بالتحلل في حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ, إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.
وضعف الشجاعة الأدبية ليس عذرا مسقطا لوجوب الاستحلال، لكن إن غلب على ظنك أن الاستحلال وإخبارها بدعائك عليها سيوغر صدرها عليك أو يزيد من مرضها، فقد ذكر الإمام الغزالي في الإحياء أنه لا يجب الإخبار إذا كان المستَحلّ يتأذى به، ونقل عن جملة من علماء السلف أنه لا يجوز إبلاغه، لما فيه من الإيذاء، وقد آذاه أولاً فلا يؤذيه ثانياً، وإذا تركت الاستحلال فيتعين عليك الاستغفار لها، والدعاء لها، والإحسان إليها، وحسن عيادتها في مرضها وسؤال الله أن يرضيها عنك، والإكثار من الأعمال الصالحة، كما ذكره الغزالي في الإحياء، ومما قاله بهذا الصدد: ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص ويسر ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الإخلاص بحيث لا يطلع عليه إلا الله فعساه يقربه ذلك إلى الله تعالى فينال به لطفه الذي ادخره لأحبابه المؤمنين في دفع مظالم العباد.
وهذا كله إذا كنت ظالمة لها في دعائك عليها، فإن استحلال المظلوم شرط من شروط صحة التوبة من مظالم العباد، وتنظر بقية شروط التوبة في الفتوى رقم: 64768.
واعلمي أن هذه التوبة واجبة عليك سواء كان ما أصابها بسبب دعائك عليها أم بسبب غيره، فالظلم واقع بنفس الدعاء عليها بغير حق، وأما إن لم تكوني ظالمة فلا يتعين عليك ما سبق ذكره من توبة واستحلال، فإن قلت: وكيف أعرف أني ظلمتها بدعائي عليها؟ قلنا لك: إنْ كانت قريبتك قد ظلمتك فيجوز لك الدعاء عليها بقدر مظلمتك، والعفو أولى، وهو ما قررناه بالأدلة في جواز دعاء المظلوم في الفتوى رقم: 20322.
وإن لم تكن قد ظلمتك أو دعوت عليها بأكثر من مظلمتك فدعاؤك عليها ظلم لها، فلا يجوز، ويدل لهذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. رواه مسلم.
قال الشيخ ملا علي القاري في المرقاة في بيان ما يدخل تحت الإثم: وَمِنْهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ لَمْ يَظْلِمْهُ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَزْيَدَ مِمَّا ظَلَمَهُ، وَلَا يُنَافِيهِ قِصَّةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، حَيْثُ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَكْثَرَ، لِأَنَّهُ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَمَعَ حِلِّهِ يَذْهَبُ أَجْرُهُ، لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ.
والله أعلم.