عنوان الفتوى : سرد الصيام...أم صيام داود
فأرجو أن تفتونا في جواز الصيام المتتابع أقصد في إمكانية صيام المسلم كل يوم هل هو جائز أم إذا أراد الصيام فبمعدل صيام يوم وإفطار يوم أفتونا آثابكم الله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الصيام المتتابع -وهو ما يسمى عند أهل العلم بصوم الدهر أو صوم الأبد- له حالتان:
الحالة الأولى: أن يصوم الإنسان جميع السنة بما فيها الأيام التي نهينا عن صومها وهي خمسة: العيدان، وأيام التشريق الثلاثة فهذا حرام، لما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا صام من صام الدهر. " ولما رواه الترمذي وقال: حديث حسن من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، كيف بمن صام الدهر ؟ قال: "لا صام ولا أفطر - أو لم يصم ولم يفطر -.
"الحالة الثانية: أن يصوم الإنسان جميع السنة ويفطر أيام النهي، فهذه الحالة قد اختلف فيها أهل العلم هل هي الأفضل أم صوم يوم وفطر يوم؟.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - في مجموع الفتاوى 2/140: ( فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد فرأوه أفضل من صوم يوم وفطر يوم، وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهي، والقول الثالث: وهو الصواب، قول من جعل ذلك تركًا للأولى أو كره ذلك، فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كنهيه لـ عبد الله بن عمرو عن ذلك ، وقوله:" من صام الدهر فلا صام ولا أفطر. " وغيرهما صريحة في أن هذا ليس بمشروع. ) انتهى
وقال ابن القيم - يرحمه الله -: تعليقًا على حديث:( " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا.
"وهو نص في أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصيام، ولو كان سرد الصيام مشروعًا أو مستحبًّا لكان أكثر عملاً، فيكون أفضل إذ العبادة لا تكون إلا راجحة، فلو كان عبادة لم يكن مرجوحًا. ) انتهى
وممن استحب تتابع الصوم من الفقهاء : الشافعية والمالكية قالوا: إن سرد الصوم أفضل من الصوم والفطر إذا لم يضعف بسببه عن شيء من أعمال البر مما هو أولى منه.
قال النووي في المجموع 6/442 : ( وحاصل حكمه عندنا أنه إن خاف ضررًا أو فوت حقًّا بصيام الدهر كره له، وإن لم يخف ضررًا ولم يفوت حقًّا لم يكره، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور. انتهى
وممن ثبت عنه سرد الصوم -سوى أيام النهي الخمسة- من الصحابة والسلف: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وأبو طلحة الأنصاري، وأبو أمامة، وامرأته، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ذكر ذلك البيهقي عنهم بأسانيده، ومنهم: سعيد بن المسيب، وأبو عمرو بن حماس، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي، والأسود بن يزيد رضي الله عنهم .
فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها: كانت تصوم الدهر في السفر والحضر. رواه البيهقي وقال النووي: إن إسناده صحيح .
وعن أنس قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرًا إلا يوم الفطر أو الأضحى. رواه البخاري.
ولعل الراجح هو: أن صوم الدهر لا يكره إذا أفطر أيام النهي ولم يترك فيه حقًّا ولم يخف ضررًا، هذا مع أن الأفضل هو صوم يوم وفطر يوم، وإنما قلنا إن صوم الدهر بالقيود السابقة لا يكره وإن كان مفضولاً لما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن حمزة الأسلمي رضي الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال:" صم إن شئت وأفطر إن شئت. "
وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم .
ولما رواه البيهقي بإسناد حسن عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام.
"وقد أجاب العلماء عن حديث: لا صام من صام الأبد. بأجوبة حسنة، ذكر منها الإمام النووي في المجموع 6/444 ثلاثة:
أحدها: أن المراد من صام الدهر حقيقة بأن يصوم معه العيد والتشريق، وهذا منهي عنه بالإجماع.
والثاني: أنه محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره؛ لأنه يألفه ويسهل عليه، فيكون خبرًا لا دعاء، ومعناه: لا صام صومًا يلحقه فيه مشقة كبيرة، ولا أفطر، بل هو صائم له ثواب الصائمين.
والثالث: أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوت به حقًّا. انتهى
ولكن ننبه -السائل الكريم- إلى أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
والله أعلم.