عنوان الفتوى : كيف ينظر المسلم إلى من هو أعلى ومن هو أدنى منه في الدين والدنيا
أولا أود إبداء حبي الشديد لكم. وسؤالي هو: الناس يتفاوتون في ما يبدو عليهم وما بهم من نعم. فكيف ينظر الأدنى منهم إلى الأعلى منه، والأعلى إلى الأدنى, في نعم الدنيا والدين؟ وجزاكم الله كل خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي للمسلم أن ينظر في الدنيا إلى من هو أسفل منه، وإن نظر إلى من هو أعلى منه دعا له، وبرّك كما بيناه بالفتوى رقم: 54650.
وأما الدين فينبغي أن يسابق من هو أعلى منه، وإذا نظر إلى من هو دونه دعا له، ورحمه.
يقول الغزالي في الإحياء: فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد، بل إن نظر إلى جاهل قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني. وإن نظر إلى عالم قال: هذا قد علم ما لم أعلم، فكيف أكون مثله. وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سناً قال: هذا قد أطاع الله قبلي، فكيف أكون مثله. وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله، فكيف أكون مثله. وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال: ما يدريني لعله يختم له بالإسلام، ويختم لي بما هو عليه الآن، فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها إلي. فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه، وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة، والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له.....انتهى.
ويدل على النظر إلى من هو أدنى في الدنيا ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تَزْدروا نعمة الله عليكم. رواه مسلم. وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه. متفق عليه.
قال السعدي في بهجة قلوب الأبرار: وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال، وأصناف النعم. فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه. فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية، ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول: الحمد لله الذي أنعم عليَّ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً......انتهى.
وأما أمر الدين فينظر المرء لمن هو أعلى منه، فيحاول أن يسبق الخلق إلى الله.
قال النووي في رياض الصالحين: باب التنافس في أمور الآخرة ...... قَالَ الله تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] .
قال ابن رجب في لطائف المعارف: لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]. فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية. فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه، خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له، فيحزن لفوات سبقه، فكان تنافسهم في درجات الآخرة، واستباقهم إليها، كما قال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال بعض السلف: لو أن رجلا سمع بأحد أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك. وقال غيره: لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه، فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب. قال رجل لمالك بن دينار: رأيت في المنام مناديا ينادي: أيها الناس الرحيل، الرحيل. فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع. فصاح مالك وغشي عليه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10, 12]. قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: ليس السابق اليوم من سبق به بعيره، إنما السابق من غفر له.
والله أعلم.