عنوان الفتوى : أقوال أهل العلم في طهارة جلد الميتة
فقد سألتكم غير مرة: هل صح عن علي وابن مسعود -رضي الله عنهما- أنهما قالا بطهارة جلد ميتة ما يؤكل لحمه بالدباغ؟ فقد قرأت وسمعت أن النووي قال برواية هذا القول عنهما. أرجوكم الإجابة يرحمكم الله، فالأمر يسبب لي عنتا شديدا في ارتداء الملابس، والأحذية، ولا أستسيغ تأويل حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة بغير حجة، ولا شك أن الصحابيين من أفقه أصحاب النبي، فلي فيهما حجة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمفتى به عندنا أن جميع جلود الميتة تطهر بالدباغ، سواء كانت مما يؤكل لحمه أم لا. وانظر الفتويين: 211252، 48329 وما أحيل عليه فيهما.
وأما ما نسبه النووي لعلي ولابن مسعود -رضي الله عنهما-، فليس قاصرا على ما يؤكل لحمه فقط، وإنما يشمل جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير.
قال النووي في المجموع: فرع في مذاهب العلماء في جلود الميتة هي سبعة مذاهب: ...."
ثم قال: والمذهب الثاني: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره، وهو مذهب الأوزاعي، وابن المبارك، وأبي داود، وإسحاق بن راهويه.
والثالث: يطهر به كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير، والمتولد من أحدهما وهو مذهبنا, وحكوه عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود رضي الله عنهما.
ثم استعرض النووي ما احتج به كل مذهب، وتكلم على حديث عبد الله بن عكيم: ألا ينتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب. وبين ما فيه من ضعف حيث قيل إنه مرسل، وأنه مضطرب، مع مخالفته لأدلة أخرى هي أكثر رواية منه وأصح إسنادا، مع رجحانها عليه طبقا للقواعد الأصولية، كما ذكر وجها لإمكان الجمع بينه وبينها، كما أجاب عن دعوى النسخ.
وكان مما قاله: ".... وأما حديث عبد الله بن عكيم فرواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: هو حديث حسن, قال: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عكيم هذا لقوله: " قبل وفاته بشهرين " وكان يقول: هذا آخر الأمر, قال: ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة. هذا كلام الترمذي. وقد روي هذا الحديث " قبل موته بشهر " وروي " بشهرين " وروي ( بأربعين يوما ) قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار، وآخرون من الأئمة الحفاظ : هذا الحديث مرسل، وابن عكيم ليس بصحابي. وقال الخطابي: مذهب عامة العلماء جواز الدباغ، ووهنوا هذا الحديث؛ لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو حكاية عن كتاب أتاهم, وعللوه أيضا بأنه مضطرب, وعن مشيخة مجهولين لم تثبت صحبتهم. إذا عرف هذا فالجواب عنه من خمسة أوجه:
( أحدها ): ما قدمناه عن الحفاظ أنه حديث مرسل.
( والثاني ): أنه مضطرب كما سبق، وكما نقله الترمذي عن أحمد. ولا يقدح في هذين الجوابين قول الترمذي: إنه حديث حسن؛ لأنه قاله عن اجتهاده, وقد بين هو وغيره وجه ضعفه كما سبق.
( الثالث ): أنه كتاب, وأخبارنا سماع، وأصح إسنادا، وأكثر رواة، وسالمة من الاضطراب فهي أقوى وأولى.
( الرابع ): أنه عام في النهي, وأخبارنا مخصصة للنهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ, والخاص مقدم.
( والخامس ): أن الإهاب الجلد قبل دباغه، ولا يسمى إهابا بعده كما قدمناه عن الخليل بن أحمد، والنضر بن شميل، وأبي داود السجستاني، والجوهري وغيرهم, فلا تعارض بين الحديثين، بل النهي لما قبل الدباغ تصريحا. فإن قالوا: خبرنا متأخر، فقدم. فالجواب من أوجه:
( أحدها ): لا نسلم تأخره على أخبارنا؛ لأنها مطلقة، فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون شهرين وشهر.
( الثاني ): أنه روي قبل موته بشهر، وروي شهرين، وروي أربعين يوما كما سبق, وكثير من الروايات ليس فيها تاريخ, وكذا هو في روايتي أبي داود والترمذي وغيرهما . فحصل فيه نوع اضطراب فلم يبق فيه تاريخ يعتمد.
( الثالث ): لو سلم تأخره لم يكن فيه دليل؛ لأنه عام, وأخبارنا خاصة, والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر كما هو معروف عن الجماهير من أهل أصول الفقه.
ولمزيد الفائدة يمكنك مراجعة كتاب المجموع للنووي. وانظر أيضا الفتوى رقم: 172 ففيها ملخص لمذاهب العلماء في ذلك مع أدلتها.
هذا مع العلم بأن الخروج من خلاف الفقهاء أولى وأورع.
والله أعلم.