القصص
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
من الواقع
طارق الليل
للأستاذ أديب عباسي
كان ذلك في ليلة من ليالي الحرب الكبرى وفي شطرها الأخير، وكنا يومئذ لا نعلم من أهوال ذلك الصراع العنيف إلاّ ما يستطيعالصغار - وما رُكّب في رءوسهم من عقول محدودة - أن يعلموا. فلم تكن الحرب عندنا إذ ذاك إلا تلك القترة وذلك الوجوم يعلوان وجوه الكبار، وإلا ذلك القلق المقيم في اللحاظ، وتلك الهمسات يتبادلونها فيما بينهم، ولا ينُون في التلطف حيناً والمخاشنة حيناً آخر، ليصرفونا عن الاستماع والإصغاء إليها.
ولكنها كانت محاولات فاشلة، إذ ليس شيء أعلق بنفوس الصغار وأخلب للبّهم وألصق بخيالهم وأدعى لفضولهم من حديث يتسارُّ به الكبار فيما بينهم، ثم يُراد لهم ألا يُلمُّوا منه بشيء.
فكنا - لنرضيهم ونأمن مناكدتهم - ننأى ونصد عنهم لاعبين ظاهراً، وننكفئ عليهم بالسمع نرهفه لنلتقط ما يتسارُّون به ويتهامسون.
فلم يكن يفوتنا شيء من أحاديثهم عن الحرب، وما يقدرونه لها من استطالة، وما يترقبون من مفاجآت، وما يخشون من عواقب، وما يتوجهون به من عطف، وتمنى الانتصار لهذه الدولة أو لتلك. على أن أظهر ما كان يبدو من آثار الحرب هو ما كنا نلمحه من مظاهر الفاقة والحاجة إلى الغذاء؛ وهو أثر ليس للتجمل والابتسام المقسور عليه حيلة.
فالحزن والغضب، والحب والفرح، والبغض والعطف، والكره والحقد والخوف، جميعهاً يستطيع المرء بالمران والممارسة أن يروض نفسه على إخفائها، بل والظهور معها في عكس مظاهرها الصحيحة.
ولكن الجوع إذا أزمن لا يستطيع وجه أن يخفيه مهما رُزق صاحبه من قدرة على الإخفاء وحيلة في التمويه. أقول: كان هذا أكثر مظاهر الحرب بُدُوّاً عندنا وأشدها بروزا: وماذا ينتظر ممن كان في سننا وفي مثل خبرتنا غير هذا؟ وهل كان بوسعنا أن نستشرف من حوادث ذلك النضال غير هذا الأثر الذي لم يستجد علينا مع الحرب غيره؟ في الحق أننا لم نكن نعي من معاني تلك الحرب في ذلك الحين سوى أنها شدة تقاسي فيها المعدة وتوابعها أشد ما يقاسي، وهي نظرة لم تكن من الضحولة وقرب الغور على قدر ما حسبنا لها فيما بعد، حينما بدأنا نقرأ عن الحرب في بطون الكتب وفي ثنايا الخطب! وهذا في الحق مما يُحسب للطفولة من بداهة مسدَّدة وإلهام صادق.
ومن منا يشك بأن أقسى ما قاساه الناس عموماً في الحرب هو الجوع، حتى بين الجنود الذين كانت تشويهم نيران المدافع وتجزّئهم قذائفها! أوينا إلى فراشنا ليلتئذ على هدهدة قبضة من الأخبار المتناقضة عن الحرب مما ترشَّح إلى البلدة النائية.
وكنا نتلقى هذه الأخبار في كثير من الاستمتاع واللذة.
وما هو إلا أن أغمضنا أجفاننا حتى نُقلنا من عالم الواقع المنغص إلى عالم الأحلام والرؤى اللذيذة: من عالم الحرمان إلى عالمالرغائب المحققة والمتع الدانية.
فكان لنا من شهي الحلوى التي حرمتنا الحرب ما نشتهي، ومن طريف اللعب التي غابت مع الحرب ما نختار.
على أنها كانت لعباً من نوع آخر غير الذي ألفنا.
فهي لعب صورها مشتقة ومؤلفة من الأوصاف التي كانت توصف بها أدوات الحرب يومئذ: طيارات تئز في الفضاء، وسيارات تنهب الأرض وتتخطف الأميال، ودبابات تجوز الوهاد وتتخطى العقبات، وأمور أخرى شتى.
وكنا في يومنا يشنُّ بعضنا الغارات على بعض، وسلاحنا هذه الأدوات التي أعارها لنا الخيال، فلم يكن يكلفنا اقتناؤها جهداً ولا نقدا، إلا أنها متع لم تدم، وأحلام رُوّعت؛ فقد هببنا مذعورين بعد موهنٍ من الليل على طرق يُوالي دراكاً على باب أحد الجيران.
وأصخت بملء جوارحي أتبين ضوضاء السيارات وقعقعة المدافع، ورغاء الطيارات، فيتصل ما بين يقظتنا والمنام: وهي الصورة التي تبادرت حالاً إلى الذهن بعد ذلك الليل الحالم وبعد تلك الانكسارات والانتصارات التي عالجناها نياماً. وأطللت فيمن أطلَّ من خصاص الباب نتبين الأمر ونجتلي الواقع، وكلٌّ في ذهنه - على ما أقدّر - صورة تباين ما في ذهن الآخر تبعاً لأول بوادر الخيال المروَّع والبداهة المجفلة.
ولم نلق صعوبة في تبين الطارق؛ فقد كانت ليلة قمراء فائضة النور كشفت لنا عن شخص في بقية أثواب لا ينفكُّ يقرع الباب بجُمع يده قرعاً فيه عنف وفيه شدة، يصيح بين الفينة والفينة في نبرات شديدة يطلب فيها فتح الباب ممن كان وقتها وراء الباب أما صاحبنا الذي كان الطارق يقصده بالطرق، وبهذه الصيغة الآمرة بفتح الباب، فقد ذهب به الخيال مذهباً آخر.
وهل يتجه في مثل هذا الحال إلى غير اللصوص خيالُ من امتلأت صناديقه بالذهب وفاضت بالأصفر الرنان؟ إن صاحبنا كان على ثروة لا بأس بها في مثل ذلك العهد.
فقد كان صاحب مطحنتين، وكان لا يتخلّى عن صاع القمح بأقل من خمسة مجيديات، ليس من طمع أو جمود عاطفة كما كان يقول، بل لأنه حلف حلفة لا يبيع الصاع بأقل من هذا المقدار!! فكانت تجيئه المرأة وبيدها الخمسة مجيديات تنقص بضعة قروش تروم بها دفع أجور الطحين في مطحنته، فيبادرها بهز الرأس مشيراً في أسف إلى يمينه التي أقسم والتي ستجرُّه إن هو حنث بها إلى الجحيم! أيقن صاحبنا إذن أن لصاً شديداً جاء يقتحم عليه الدار عنوة، وإذن فليتحصن ما تيسر له أن يتحصن، وليتخذ من العدَّة كل ما يستطيع من عدة، وليضع من الصناديق وراء الباب ما يضع، وليأخذ بيده مسدسه محشوا، وليوسط بينه وبين الباب أمه العجوز يتترَّس بها، ففي جسمها الدسم الغني بالشحم واللحم، وفي قامتها العريضة المديدة وقاء له إذا هم هذا الواغل بشيء من خلف الباب، وتشجع صاحبنا المحاصَر ونادى يصوت كالحشرجة: مَن الطارق؟! من الطارق؟! فجاءه الجواب زيادة في الطرق ولجاجة في النداء والطلب.
وتكرر السؤال الذي جعله الرعب على وتيرة واحدة، وتكرر الجواب الذي جعله الاصرار على وتيرة واحدة أيضاً. وقال كبيرنا: ليس هو باللص الذي يخشى.
وعهدنا باللصوص لا يقتحمون المنازل على السكان، بل هم يتسلّلون إليها في غفوة من الناس وغفلة من الحراس.
وهو كذلك ليس بالسائل والعهد بالمتسولين يقرعون الأبواب قرعاً خفيفاً في أبصار غضيضة، ورؤوس منكسة، وأصوات خفيضة لا تكاد تبين، إلا الأغرار منهم الذين لم يجربوا ولم يعرفوا من طباع البشر ما يعرف المتسولون المجربون. ولم نشأ أن نطيل الحدس والتخمين، فتوجه كبيرنا إلى الطارق وسأله في جفاء ماذا يريد في ذلك الهزيع من الليل، ولم ذلك القرع العنيف والنداء الصاخب؛ فأجاب في نظر شارد وفي غير أناة: لقد مضى علي ثلاثة أيام لم أطعم طعاماً، فأوشكت أن أهلك وقد طرقت فيمن طرقت حياً من أحياء الأعراب المخيمين في ضاحية البلد الجنوبية على بعد غلوتين أو ثلاث، فوصفوا لي هذه الدار من البلدة، وقالوا انك واجد هناك قوتاً ومأوى ليلتك هذه، وعساي لم أخطئ الاستهداء. وهم كبيرنا ليدخله بعد الذي عرف من أمره دون أن يزيد في سؤاله، فينال بعض الطعام ويبيت ليلته.
غير انه حدث في هذه اللحظة ما راعانا جميعاً: ذلك أن صاحبنا المحاصر، بعد أن أنس إلى أصواتنا ولهجة الحديث الذي دار بيننا، وأيقن أن الأمر من الخطورة على غير ما توهم وجسم له الخيال الزائغ.
ففتح الباب بعنف ظاهر، والمسدس يلمع في قبضة يده والعصا في قبضة يده الأخرى، ولم يتريث لنوضح له جلية الأمر، بل أقبل على المسكين بهراوته الثقيلة وانهال يكيل له بلا حساب حتى كاد يقضي عليه بين أيدينا، لولا أن لطف المولى وتداركه برحمته فسقط مما ناله بين أيدينا التي جعلنا منها شبه حاجز بين عنف الرجل المهاجم وضعف هذا الطارق.
ولم يستطع صاحبنا معها أن يستعمل العصا فاندفع يكيل له بقبضة يده حيثما وجد سبيلاً إلى ذلك من بين أيدينا.
وأدرك كبيرنا أي شيء يصير إليه الرجل إذا لم يحل حيلولة تامة بينه وبين مهاجمه المحنق، ولم تسعفه سنه من أول الأمر في تخليص الرجل، فلجأ أخيراً إلى أسلوب فيه شيء من القسوة، ولكنه الأسلوب الذي لم يكن بالإمكان ارتجال ما يفضله في هذا الظرف الحرج.
فقد أمسك بتلابيب الرجل وجره إلى حيث استطاع أن يوقيه من لكمات مهاجمه الذي أراد أن يثبت لنا بعد ذلك الموقف من الجبن أنه على شيء كثير من البأس والأقدام وبعد أن هدأ روع الرجل وتناول بعض الطعام أقبلنا نلومه مشفقين، وسألناه ما شأنه ولِمَ لم يختر له غير ذلك الأسلوب الغريب للاستجداء واستدرار العطف.
فأجاب عن أسئلتنا جميعاً بقوله: إنني جندي من فلول الجيش التركي في فلسطين، طوح بي السير إلى هذه البلاد بعد أن نال مني الجوع والتعب أقصى ما ينالاه من حي.
فقد كنت لقلة خبرتي بالطرق أسير من البلد الواحد أبغي بلداً آخر فانتهى غالباً حيث أبتدئ، وأبتدئ حيث أنتهي.
وكنت حيناً أصيب طعاماً أو شيئاً شبيهاً بالطعام وأحياناً أمضي ساغباً أياماً لا يخالط الماء في جوفي شيء من الزاد، وآخر عهدي بالطعام - كما أخبرتكم - كان منذ ثلاثة أيام.
فقد استجديت واستجديت، مصطنعاً كل أساليب الخشوع وأنواع الضراعة، ولكن في غير طائل.
وأخيراً وصلت ذلك الفريق من الأعراب فوصفوا لي هذه الدار، فآليت لا أصبر زيادة عما صبرت فإما شبع يرد إلي الحياة، أو موت أرتاح معه من ذلة السؤال وآلام الجوع.
وعوّلت على أمر.
قلت أبادر أصحاب الدار بالعنف والصياح: فان كانت فيهم بقية من رحمة وآثار من إنسانية لم يمنعهم صياحي إذا ما شاهدوا ما أنا فيه، من الرثاء لحالي والجود على بشيء.
وان كانت الأخرى وكانوا كبقية الناس نالني منهم ما أرجو معه أن أضع حداً لهذه الحياة المثقلة.
وحياة الجندي - كما قد تعلمون - لا تساوي في هذه الأيام شيئاً، ولا تعسر على أحد، ولولاكم - جزيتم خيراً على كل حال - لكانت هذه آخر ليالي من الشقاء. ولحظت عند هذا الحد من حديث الرجل الدمع يجول في عينيه بين متحير ومتحدر، يهبط به الحزن لحظة، وتكفكفه الرجولة أخرى.
وكأنه آنس مني عطفاً صادقا عليه وإشفاقا على ما صار إليه، فأقبل علي يحدثني ويبثني شكواه.
وأغلب اليقين أنه لم يكن يعتقد أنني مدرك إلى أي الأغوار والأعماق النفسية تنحدر آلامه وأشجانه.
إلا أن ذلك لم يكن يمانعه قط عن الحديث.
والمرء إذا زخرت نفسه بالألم وأترعها الحزن تحدث إلى كل شيء، تحدث إلى نفسه، تحدث إلى سواه، تحدث إلى الأطفال، تحدث إلى الحيوان، تحدث إلى الجماد، تحدث إلى لا شيء، فكأن المرء في ذلك الإناء يمتلئ فيفيض بالزائد على ما حوله. كشف الجندي عن صدره وأراني أثر جرحين أو ثلاثة، وكشف عن ساقه وأراني مثل وشرع يقول: أترى يا ولدي؟ هذا بعض نصيبنا من هذه الحرب.
هذا بعض ما أصابني.
ولكنني كنت كلما أصبت أتغلب على آلامي وأتحامل على نفسي فألوذ بربوة أو اهبط حفرة تقيني زيادة الأذى إلى أن ينصرف العدو أو يزول الخطر، فأقوم إذا كنت قادراً، أو أحمل إلى حيث أعالج، لأعود إلى القتال أمضي عزيمة وأشد بأساً.
ولكن الزمن - يا بني - والجوع والخذلان، قد ذهبت بالكثير من قوانا وصبرنا، فعدنا لا يهمنا أكنا في الطليعة أم في المؤخرة.
وأخيراً رأيتني على غير إرادة مني أتخلف عن الجيش وأهيم على وجهي في غير قصد أو اتجاه، إلى أن انتهى بي المطاف إلى هذا البلد ثم هذه الدار، فنالني ما نالني على يدي ذلك العلج الذي كاد يميتني بهراوته.
أهذا يا ولدي جزاء هذه الجراح؟ أهذه خاتمة الجندي الذي يدفع عنكم عدوان الأعداء بدمه وحياته؟! إنني من غدي مسلم نفسي إلى أقرب سلطة عسكرية تفعل بي ما تشاء.
ذلك خير لي وأبقى. والتفت إليه عند هذا الحد من حديثه وخاطبته متحمساً: نعم! ذلك أفضل يا عماه.
لو كنت محلك ما فعلت غير هذا.
انك هناك لا تضرب بالعصى على ما أعتقد ولا تجر على الأرض: ونظر ألي المسكين نظرة ذاهلة حزينة وقال: نعم يا بني، سوف لا يضربونني بالعصي، لأن العصي ليست جزاء من يتخلف عن واجبه في الجندية! إنما هي قطع من الرصاص صغيرة يدفنونها في أحشائنا أو يولجونها في رؤوسنا، فنضحي وكأن لم نكن.
ولكن يميناً غموساً لن يحول هذا دون ما أنا عازم عليه من غدي! وخُيل إلى كأنني أدركت معنى هذا الكلام الغريب فراعني من الرجل هذا العزم، ونظرت إليه في رعب ظاهر وذعر متوسل، وبعد لحظة من الصمت خيل ألي فيها أن الرجل يتذكر أموراً ويستعيد صوراً رفع عينيه وقال: كلا يا ولدي الصغير! كلاّ! سأجاهد إذا في سبيل الحياة، سأحاول أن أعيش.
إن لي صغيراً في سنك.
لقد نسيته حينما أقسمت، ولكنني الآن أذكره.
انه ينتظرني الآن: ينتظر أن يطوقني بيديه الصغيرتين.
سأعيش، سأعيش وانحدر الدمع المعلق في مقلتيه منذ حين، وذهب يسير في أخاديد وجهه المجعد.
وكان بعضه يقع على الأرض وبعضه الآخر تتلقاه كفه وفيها قِدّة من القماش أخذها من بقية قميص على صدره وعدت إلى فراشي وليس أقر مني عيناً، وليس أدمي مني قلباً كذلك. أديب عباسي