عنوان الفتوى : هل يشترط للتوبة من سوء الظن طلب السماح ممن ظن به السوء
عبر أشخاص من جوارنا يقومون بعمل ما، فتحدثت بسوء ظني، وقلت: "لعلهم كذا، ويريدون كذا" فهل أنا آثم بذلك، ويجب عليّ طلب السماح منهم؟ فأنا لا أعرفهم، ولا أعرف أين يعيشون، وليس باستطاعتي شيء من طلب السماح، فما الحكم؟ وهل يجب في سوء الظن في الأصل طلب السماح؟ وهل حكمها حكم الغيبة؟ وهل أعتبر قد عينت الأشخاص بفعلي؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشرع قد جاء بالزجر عن سوء الظن بالمسلم الذي لم تظهر منه ريبة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {الحجرات:12}.
قال القرطبي في تفسيره: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا، وفي الآية هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة، لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة، أو بشرب الخمر مثلًا، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة، قوله تعالى: "ولا تجسسوا" وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء، ويريد أن يتجسس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصر، ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حرامًا، واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر، والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به، والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم من المسلم: دمه، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء". وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل، واسكت، وظن في الناس ما شئت. اهـ.
وفي حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. متفق عليه
جاء في شرح مسلم للنووي: المراد النهي عن ظن السوء: قال الخطابي: هو تحقيق الظن، وتصديقه، دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك، ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب، ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به، كما سبق في حديث: "تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة، ما لم تتكلم أو تعمد" وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم .اهـ.
فإن كان ظنك السيئ قد وقر في قلبك، ولم يكن مجرد خاطر عابر، وكان من ظننت به السوء لم يبد منه ما يوجب ذلك: فقد وقعت في سوء الظن المحرم، وتجب التوبة إلى الله عز وجل منه.
وأما طلب السماح ممن ظنت به السوء: فيقال فيه: إن الغيبة - والتي هي أمر ظاهر - لا يشترط في التوبة منها طلب العفو ممن اغتيب؛ وذلك دفعًا لما قد ينشأ بذلك من المفسدة، بل يكتفى بالدعاء له، والاستغفار على الراجح، قال ابن القيم: إن كانت المظلمة بقدح فيه، بغيبة، أو قذف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه، والتحلل منه، أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه، ولا يشترط تعيينه، أو لا يشترط لا هذا، ولا هذا، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه واغتابه؟
على ثلاثة أقوال، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف، هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف، والتحلل منه أم لا؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم.
والمعروف في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم.
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه، وإبرائه.
ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفًا بقدره، فلا بد من إعلام مستحقه به؛ لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره، واحتجوا بالحديث المذكور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان لأخيه عنده مظلمة - من مال، أو عرض - فليتحلله اليوم» قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقًّا لله، وحقًّا للآدمي، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه، قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه: إن شاء اقتص، وإن شاء عفا، وكذلك توبة قاطع الطريق، والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه، وقذفه، واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه، وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية - قدس الله روحه -.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقًا وغمًّا، وقد كان مستريحًا قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وأورثته ضررًا في نفسه أو بدنه، كما قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل.
وما كان هكذا: فإن الشارع لا يبيحه، فضلًا عن أن يوجبه ويأمر به، قالوا: وربما كان إعلامه به سببًا للعداوة، والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدًا، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم، والتعاطف، والتحابب، قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية، وجنايات الأبدان من وجهين: أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه محض حقه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تهج منه غضبًا ولا عداوة، بل ربما سره ذلك، وفرح به، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلًا ونهارًا، من أنواع القذف، والغيبة، والهجو، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت. اهـ.
فإذا تبين أن الغيبة - والتي هي أمر ظاهر - لا يشترط في التوبة منها طلب العفو ممن اغتيب؛ وذلك دفعًا لما قد ينشأ بذلك من المفسدة، فمن باب أولى أن إساءة الظن - والتي هي أمر في الباطن - لا يشرع فيها طلب السماح ممن ظُن به السوء، وانظر مزيد بيان في الفتوى رقم: 143707.
والله أعلم.