عنوان الفتوى : الجمع بين قوله تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) وبين حديث : " استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود " .
كيف أوفق بين هذه الآية ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ، وهذا الحديث : " استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود " لأن أخي سألني عن هذا الحديث ولم أعرف الرد عليه حتى الآن ؟
الحمد لله
لا تعارض بين الآية والحديث ، على فرض صحته ، وقد وفق العلماء بينهما :
فالكتمان يكون قبل حصول الحاجة ، فإذا حصلت ، وأنعم الله عليه ببلوغه ما يريد ، فإنه يتحدث بالنعمة ويشكر الله عليها ، ما لم يخش من حاسد .
قال المناوي رحمه الله :
" ( استعينوا على إنجاح الحوائج ) لفظ رواية الطبراني : (استعينوا على قضاء حوائجكم ) (بالكتمان ) أي : كونوا لها كاتمين عن الناس ، واستعينوا بالله على الظفر بها ، ثم علل طلب الكتمان لها بقوله : ( فإن كل ذي نعمة محسود ) يعني : إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم ، وموضع الخبر الوارد في التحدث بالنعمة : ما بعد وقوعها ، وأمن الحسد " انتهى من " فيض القدير " (1/493) .
ويدل على جواز كتمان النعم ، خوفاً من الحسد ، قوله تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .
قال ابن كثير رحمه الله :
"قوله تعالى : ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ... ) ، يؤخذ من هذا ، الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث : ( استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود ) " انتهى من " تفسير ابن كثير " (4/318) .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المقصود من التحديث بالنعمة : هو القيام بشكرها ، وإظهار آثارها ، فإذا أنعم الله عليه بالمال شكر الله تعالى على هذه النعمة ، وأكثر من التصدق والكرم والجود ، حتى يقصده الفقراء والمحتاجون كان هذا هو المقصود بالتحديث بالنعم ، وليس المراد تعديد ثروته ، وإخبار الناس بما عنده ، فإن هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا هو ـ أيضا ـ من فعل ذوي الحزم والهيئات .
قال القاسمي رحمه الله :
"(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي : بشكرها وإظهار آثارها، فيرغب فيما لديه منها، ويحرص على أن يصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها.
وفي الآية تنبيه على أدب عظيم ، وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها، حرصا على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفرارا من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.
قال الإمام [يعني : الشيخ محمد عبده] : من عادة البخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل ، فلا تجدهم إلا شاكين من القل ، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين.
فهذا هو قوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي : إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة ، فإن هذا من الفخفخة التي يتنزه عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض. ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاويا.
وقد يقال: إن المراد من النعمة النبوة. ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: (وَوَجَدَكَ عائِلًا) فتكون النعمة بمعنى الغنى" انتهى من "محاسن التأويل" (9/493) ، وينظر : "تفسير جزء عم" للشيخ محمد عبده (112) .
على أن التحديث بالنعم لا يلزم أن يكون على سبيل التفصيل ، بل قد يكون إجمالاً ، بأن يقول : إن الله أنعم علىَّ بالصحة والغنى والهداية ، ولا يفصل في ذكر هذه النعم .
قال السعدي رحمه الله :
"(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) : وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية ؛ أي : أثن على الله بها ، وخُصها بالذكر ، إن كان هناك مصلحة ، وإلا ؛ فحدث بنعم الله على الإطلاق ، فإن التحدث بنعمة الله داع لشكرها ، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها ؛ فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن" انتهى من " تفسير السعدي " (ص 928) .
والله أعلم .