عنوان الفتوى : فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سمعت حديثًا, ولم أفهم معناه جيدًا, وقد قرأته في الدرر السنية, ومعنى الحديث أن من رأى ظلمًا, وظلّ ساكتًا فإن الله يلعنه, وأنا دائمًا أرى الظلم؛ ورغم كرهي له إلا أنني جبانة, وأخاف أن أتدخل, وأحيانًا أبتسم, وأنا فعلًا أكره هذا الشيء في داخلي, كرؤيتي بعض أقاربي يضربون أبناءهم, أو نحو ذلك, وأحيانًا يكون مزحًا, لكن الطفل يبكي, ويصدِّق بعض الكلام, وإحدى قريباتي أخبرتني أنها ضربت قريبتها الصغيرة - عمرها نحوًا من خمس سنوات - لأنها تضرب ابنها دائمًا - عمره سنة تقريبًا – فقلت لها: حرام, فهي طفلة, فقالت: إنها ضربتها ضربًا خفيفًا, فهل كلامي صحيح؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلعل الحديث المقصود هو ما أخرجه أبو داود في سننه حيث قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله, ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} إلى قوله {فاسقون} [المائدة: 81]، ثم قال: «كلا والله, لتأمرن بالمعروف, ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا». حدثنا خلف بن هشام، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، زاد: أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم. وضعفه الألباني.
وإنكار المنكر من الفرائض؛ للأدلة الكثيرة الدالة على ذلك، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. أخرجه مسلم.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغيره) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة, وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب, والسنة, وإجماع الأمة, وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين, ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة, ولا يعتد بخلافهم, كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا, فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ... ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية, إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين, وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف, ثم إنه قد يتعين, كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو, أو لا يتمكن من إزالته إلا هو, كمن يرى زوجته, أو ولده, أو غلامه على منكر, أو تقصير في المعروف. اهـ.
فيجب على المسلم إذا رأى منكرًا أن ينكره بما يستطيع، وكراهة المنكر بالقلب لا تكفي, إن كان بمقدور الشخص إنكار المنكر بيده, أو بلسانه، ولا يسقط وجوب النهي عن المنكر إلا بخشية الفتنة, أو الأذى والضرر, أو حدوث منكر أكبر, أو مساوٍ، جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: الأمر بالمعروف - وهو كل ما أمر به شرعًا - والنهي عن المنكر - وهو كل ما ينهى عنه شرعًا - فرض عين على من علمه جزمًا, وشاهده, وعرف ما ينكر, ولم يخف سوطًا, ولا عصا, ولا أذى, زاد في الرعاية الكبرى: يزيد على المنكر أو يساويه, ولا فتنة في نفسه, أو ماله, أو حرمته, أو أهله، وأطلق القاضي وغيره سقوطه بخوف الضرب, والحبس, وأخذ المال، وإنه ظاهر, نقل ابن هانئ في إسقاطه بالعصا خلافًا للمعتزلة, وأبي بكر بن الباقلاني، وأسقطه القاضي أيضًا بأخذ المال اليسير, قال أيضًا: وقيل له: قد أوجبتم عليه شراء الماء بأكثر من ثمن مثله, قال: إنما أوجبنا ذلك إذا لم تجحف الزيادة بماله، ولا يمتنع أن يقال مثله هنا, ولا يسقط فرضه بالتوهم، فلو قيل له: لا تأمر على فلان بالمعروف, فإنه يقتلك, لم يسقط عنه, كذلك قال، وإذا لم يجب الإنكار لظننا زيادة المنكر, خرج عن كونه حسنا؛ لأن ما أزال وجوبه أزال حسنه, ويفارق هذا إذا ظننا أن المنكر لا يزول, وأنه يحسن الإنكار, وإن لم يجب, كما يقاتل الكفار, والبغاة, والخوارج, وإن ظن إقامتهم على ذلك. انتهى كلامه. فقد صرح بأن فرضه لا يسقط بالتوهم, وقوله: وإذا لم يجب الإنكار لظننا زيادة المنكر: ظاهره أنه لا يسقط إلا بالظن, وكلام الإمام أحمد والأصحاب - رحمهم الله - إنما اعتبروا الخوف - وهو ضد الأمن - وقد قالوا: يصلي صلاة الخوف إذا لم يؤمن هجوم العدو ... قال ابن الجوزي: فأما السب, والشتم فليس بعذر في السكوت؛ لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب، وظاهر كلام غيره أنه عذر لأنه أذى، ولهذا يكون تأديبًا وتعزيرًا، وقد قال له أبو داود: ويشتم, قال: يحتمل من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك .اهـ. وقد بينا وسائل التغلب على الضعف عن إنكار المنكر في الفتوى رقم: 224908.
وأما ضرب الأبناء: فلا يسوغ إلا للتأديب، وبضوابط محددة، ولا يجوز ضرب الأبناء للتسلي أو التشفي، قال ابن عثيمين كما في مجموع فتاواه: إذا كان الطفل يتأدب بالضرب, ولم يكن بد منه, فلا بأس به, وقد جرت عادة الناس على هذا, وإذا كان لا يتأدب, كطفل في المهد, جعل يصيح, فتضربه أمه مثلًا, فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إيلامًا بلا فائدة, والمدار كله على: هل هذا الضرب يتأدب به الطفل, أو لا يتأدب؟ وإذا كان يتأدب به فلا يضرب ضربًا مبرحًا, ولا يضرب على الوجه مثلًا, ولا على المحل القاتل, وإنما يضرب على الظهر, أو الكتف, أو ما أشبه ذلك مما لا يكون سببًا في هلاكه, والضرب على الوجه له خطره؛ لأن الوجه أعلى ما يكون للإنسان, وأكرم ما يكون على الإنسان, وإذا ضرب عليه أصابه من الذل والهوان أكثر مما لو ضرب على ظهره, ولهذا نهي عن الضرب على الوجه. اهـ. وانظري المزيد في ضوابط ضرب الأبناء في الفتوى رقم: 14123.
وأما غير الأبناء: فلا يجوز لهم ضربهم مطلقًا، إلا بإذن أوليائهم، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: تثبت ولاية التأديب:
أ - للإمام, ونوابه, كالقاضي بالولاية العامة، فلهم الحق في تأديب من ارتكب محظورًا ليس فيه حد.
ب - للولي بالولاية الخاصة، أبًا كان, أو جدًّا, أو وصيًا، أو قيمًا من قبل القاضي؛ لحديث: مروا أولادكم بالصلاة ... إلخ.
ج - للمعلم على التلميذ, بإذن الولي.
د - للزوج على زوجته فيما يتصل بالحقوق الزوجية؛ لقوله تعالى: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ" {النساء:34}، وليس لغير هؤلاء ولاية التأديب عند جمهور الفقهاء. اهـ.
والله أعلم.