عنوان الفتوى : هل يكفي إنكار الغيبة بالقلب مع البقاء في مجلس الغيبة
قررت ترك الغيبة بعد شهر رمضان، ولكن هناك بعض الأشخاص يغتابون أمامي ولا أستطيع أن أنصحهم، لأنهم سوف يغضبون، فهل يكون علي إثم في هذه الحالة مع كرهي بقلبي، وإن استطعت القيام من المجلس قمت؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتقبل توبتك، واعلمي أن الواجب على المسلم إذا شهد مجلسا فيه منكر من غيبة أو غيرها أن ينكر على من يفعل ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. أخرجه مسلم.
والنهي عن المنكر واجب لا يسقط إلا بخشية الضرر بالإنكار، وأما مجرد غضب المنكَر عليه فليس مسقطا لوجوب الإنكار، جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: الأمر بالمعروف وهو كل ما أمر به شرعا، والنهي عن المنكر وهو كل ما ينهى عنه شرعا، فرض عين وهل هو بالشرع أو بالعقل؟ مبني على التحسين والتقبيح، ذكره القاضي وغيره على من علمه جزما وشاهده وعرف ما ينكر ولم يخف سوطا ولا عصا ولا أذى، زاد في الرعاية الكبرى: يزيد على المنكر أو يساويه ولا فتنة في نفسه أو ماله أو حرمته أو أهله، وأطلق القاضي وغيره سقوطه بخوف الضرب والحبس وأخذ المال، وإنه ظاهر، نقل ابن هانئ في إسقاطه بالعصا خلافا للمعتزلة وأبي بكر بن الباقلاني، وأسقطه القاضي أيضا بأخذ المال اليسير، قال أيضا: وقيل له قد أوجبتم عليه شراء الماء بأكثر من ثمن مثله، قال إنما أوجبنا ذلك إذا لم تجحف الزيادة بماله، ولا يمتنع أن يقال مثله هنا ولا يسقط فرضه بالتوهم، فلو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه كذلك... قال ابن الجوزي: فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت، لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب، وظاهر كلام غيره أنه عذر، لأنه أذى، ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا، وقد قال له أبو داود ـ يعني للإمام أحمد: ويشتم، قال: يَحتَمِل، من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك. اهـ.
ولا تكفي كراهة القلب مع القدرة على الإنكار باللسان، وإذا بقي المنكر ولم يتغير بالإنكار فتجب مفارقة المكان، لقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140}.
قال القرطبي: فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ـ أي غير الكفر: إنكم إذا مثلهم ـ فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: إنكم إذا مثلهم ـ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. اهـ.
وقال السعدي: وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم: حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ـ أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها: إِنَّكُمْ إِذًا ـ أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة: مِثْلُهُمْ ـ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها. اهـ.
فالحاصل: أنه يجب عليك الإنكار على من يغتاب بحضرتك، فإن لم يستجب فعليك بمفارقة المكان، لئلا تكوني شريكة له في الإثم.
والله أعلم.