عنوان الفتوى : هل يشرع له هجر إمام المسجد الذي لا يقبل النصح في ترك البدعة ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

صليت إماما في المسجد ، فتحدث رجل من أهل الحي : أننا لا نريد إماما مذهبيا .. ، وهي كلمة يراد بها كل من يلتزم ... ؛ ولم يعقب أحد من المصلين على كلامه ، فلم أتقدم لإمامة المصلين في هذا المسجد منذ ذلك اليوم ، إلا إذا أمرني أحد المصلين بالإمامة خوفا من أن أكون ممن أم قوما وهم له كارهون ، وبعد فترة من الزمن أصبح صاحبنا الذي تحدث عني إماما لهذا المسجد ، إلا أنه كان يلحن كثيرا في قراءة القرآن ، ولم تكن صلاته على ما يرام ، حسب علمي بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يترك يوما الدعاء الجماعي بعد أن يصلي بالناس ، ويؤمّن المصلون بعد دعائه ، بالرغم من أنني ذكرت له أن الدعاء بهذه الكيفية : حكمه البدعة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، فلم يقبل كلامي ، واعتبر ذلك من باب "التمذهب" ، كما يطلقها على أنصار السنة , لذلك لم أحتمل التعامل معه كالسابق ، فلم أستطع مصافحته منذ ذلك اليوم . السؤال : هل يجوز هجري له من باب التعامل ، ليترك هذا التمسك الشديد ببدعته ؟ وإذا لم يجز هذا : كيف أتعامل معه ، مع العلم بأنه يجادل بغير علم ؟

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله.


أولا :
الأصل تحريم هجر المسلم فوق ثلاث ، لكن هذا حيث يكون الهجر لحظ النفس ، أو حال الدنيا .

وأما الهجر لأجل الدين ، مثل هجر أهل البدع ، أو أهل الفسق والفجور : فهذا أمر ينظر فيه إلى المصلحة الشرعية ؛ فإن غلب على الظن حصول مصلحة شرعية من وراء هذا الهجر ، كأن يرتدع المبتدع عن بدعته ، أو ينفضّ الناس من حوله ، أو يقل عدد المغترين به ، أو يضعف انتشار بدعته ، أو نحو ذلك من المصالح الشرعية : فإن هجرَه حينئذ يكون مشروعا .
أما مع عدم حصول مصلحة من وراء هجره : فإنه لا يهجر .

ثم إن هجر المبتدع والعاصي ، في مثل ذلك ، مع أنه من مسائل الاجتهاد والنظر فيما يرجى من مصلحة الهجر ؛ فهو كذلك أمر يختلف باختلاف الزمان ، والمكان ، ونوع البدعة ، وقدرها في ميزان الشرع ، فليس الهجر في الأماكن التي تظهر فيها السنة ، ويكون لأهلها فيها شوكة وغلبة ، بحيث يرجى أن يرتدع المبتدع بمثل ذلك ، ويقطع أصل بدعته ، كأماكن الغربة ، وأزمانها ، واستضعاف أهل السنة ، وعدم مبالاة من هجر ، بهجر الهاجر ، بل ربما زاد بعضهم في بدعته ، ولج في أمره .

ثم ليست بدع الاعتقاد ، كبدع الأعمال ؛ بل الغالب أن يكون أمر الأولى أشد ، والتحذير منها أقوى ، والنهي عن مثلها أوجب .

ثم ليست بدع الاعتقاد والعلوم : سواء ، بل هي متفاوتة في ذلك تفاوتا عظيما ، فمنها البدع الكبار المخرجة من الملة ، ومنها دون ذلك .
وهكذا بدع العمل أيضا : ليست على مرتبة واحدة ، بل منها الكبار ، ومنها الصغار ، ومنها بين ذلك .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الواجب على من كان له قرناء فيهم بدعة أن ينصحهم ويبين لهم أن ما هم عليه بدعة لعل الله أن يهديهم على يديه حتى ينال أجرهم .
فإن أصروا على ما هم عليه من البدعة : فإن كانت البدعة مكفرة وجب عليه هجرهم والبعد عنهم .
وإن لم تكن مكفرة ، فلينظر : هل في هجرهم مصلحة ؟ إن كان في هجرهم مصلحة هجرهم ، وإن لم يكن في هجرهم مصلحة فلا يهجرهم ؛ وذلك لأن الهجر دواء ؛ إن كان يرجى نفعه فليفعل، وإن لم يرجَ نفعه فلا يفعل " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (4/ 2) بترقيم الشاملة .

وانظر جواب السؤال رقم : (171445) .

ثانيا :
إذا كان هذا الإمام يلحن في قراءة الفاتحة لحنا يحيل المعنى ، أو يسقط حرفا ، أو يبدل حرفا بحرف ، ونحو ذلك : فلا يجوز له أن يؤم الناس ، ولا يجوز للناس أن يقدموه للإمامة .
وإن كان يخطئ فيها خطأ لا يحيل المعنى، ولا يغير حروف الآيات أو يسقطها : فصلاته وصلاة من خلفه صحيحة ، إلا أن مثل هذا لا يقدم للصلاة ، وفي الناس من هو أفضل منه قراءة ، بل يؤم القوم : أقرؤهم لكتاب الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الشيخ صالح الفوزان حظه الله :
" إذا كان إخلاله بالفاتحة يخل بالمعنى؛ فهذا لا تجوز الصلاة خلفه ، إلا لمن هو مثله؛ لأن قراءة الفاتحة على الوجه الصحيح ركن من أركان الصلاة؛ فلا تصح الصلاة خلف من يلحن فيها لحنا يخل بالمعنى؛ كما لو كان يقرأ ( أنعمت عليهم ) : ( أنعمت ) ؛ بالضم، أو : ( العالمين ) : ( العالمين ) ؛ بكسر اللام؛ هذا يخل بالمعنى؛ فلا يجوز الصلاة خلف من هذه حاله .
أما إذا كان اللحن لا يحيل المعنى؛ فهذا أيضا لا يجعل إماما وهناك من هو أحسن منه قراءة " انتهى من "المنتقى من فتاوى الفوزان" (49 /51) .
انظر جواب السؤال رقم : (70270) ، (146489) .

ثالثا :
يشرع الجهر بالأذكار التي تقال عقب الصلوات ، لثبوت السنة به ، لكن على وجه الانفراد ، دون الاجتماع عليه ، وبالقدر الذي لا يشوش على المصلين .
انظر جواب السؤال رقم : (154213) .
وأما الدعاء الجماعي بعد الصلاة المكتوبة : فهو من البدع المحدثة ، قال علماء اللجنة الدائمة :
" الدعاء الجماعي بعد الصلاة بدعة لا أصل له في الشرع، والمشروع الذكر، والدعاء بالوارد بعد السلام من كل مصل بمفرده " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/ 241)
وينظر جواب السؤال رقم : (105644) ، ورقم : (115781) ، ورقم : (93757).

على أن الذي يظهر أن مخالفة الإمام في الدعاء الجماعي بعد الصلوات : ليست مما يوجب هجرا بين المسلمين بذاتها ؛ بل ينبغي أن يناصح الإمام في ذلك ، ولو ناصحه غيرك : لعله أن يكون أولى وأنفع .
فإن وجدت مسجدا أفضل ، تقام فيه صلاة الجماعة ، وحاله أقرب للسنة ، وإمامه أقرأ من هذا الإمام : فصل معهم ، إن كان بمقدورك ذلك .
وإن لم يتيسر ذلك : فصل مع الناس ، ما دامت صلاة الإمام صحيحة في نفسها .
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله ، في كتاب الصلاة من صحيحه :
بَاب : إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : صَلِّ ؛ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ .
ثم روى فيه بإسناده (663) عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ ، فَقَالَ : إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى ، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ ، وَنَتَحَرَّجُ ؟
فَقَالَ : الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ ؛ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ .

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (13766).

والله تعالى أعلم .