عنوان الفتوى : خطورة وساوس الكفر وعلاجها
أعاني الآن من وسواس صعب جدًّا في العقيدة, وأتعب جدًّا من تلك الوساوس, ولم أعد أعلم ماذا أفعل, فهي وساوس رهيبة, والموت أسهل منها, فلو ضحكت دون إرادة مني - مثلًا – يأتيني ليقول لي: كذا وكذا, فلم أعد أضحك؛ خوفًا من تلك الوساوس, وأصبحت متضايقًا لأني خائف جدًّا, وكل مرة أتوب وأستحم, ولم أعد أصلي, ولا أقوم بعبادة الله رب العالمين بصورة جيدة, فماذا أفعل؟ ولو تركت هذه الوساوس, ولم ألتفت إليها أجد فكرة تلحّ عليّ, وتقول: أنت كافر, وقد حبط عملك, تعبت, وأنا راض بالابتلاء, ولكني خائف من الكفر, والشيطان يأتي ويقول لي: لكي تكون كارهًا للوساوس يجب أن تتضايق, ولا تبتسم, ولا تأكل, ولا تشرب, فماذا أفعل: هل أواجه هذه الوساوس بكل قوة, ولا ألتفت إليها - كأنها ليست موجودة -؟ فكلما فعلت فعلًا معينًا وسوس الشيطان لي أنك تقصد به كذا وكذا, وأنا أخاف الملك عز وجل فماذا أفعل؟ أرجو الرد عن جميع الاستفسارات الموجودة بالفتوى.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعلاج لمثل ما تعاني منه من وسوسة هو الإعراض عنها بالكلية, وعدم الاسترسال فيها بالغة ما بلغت، فكل ما ذكرته من وساوس الشيطان, وعلاجها بالاستعاذة, والدعاء, والإكثار من الذكر, وقد نقلنا في عدة فتاوى سابقة كلام العلماء في ذلك, ومنه قول ابن حجر الهيتمي حينما سئل عن داء الوسوسة, هل له دواء؟ فأجاب بقوله: له دواء نافع, وهو الإعراض عنها جملة كافية, وإن كان في النفس من التردد ما كان, فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت, بل يذهب بعد زمن قليل, كما جرب ذلك الموفقون, وأما من أصغى إليها, وعمل بقضيتها, فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين, بل وأقبح منهم, كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها, وأصغوا إليها وإلى شيطانها الذي جاء التنبيه عليه منه صلى الله عليه وسلم بقوله: اتقوا وسواس الماء الذي يقال له الولهان .إلى أن قال: وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته, وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليستعذ بالله ولينته. انتهى
وذكر العز بن عبد السلام, وغيره نحو هذا, فقالوا: داء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني، وأن إبليس هو الذي أورده عليه، وأن يقاتله فيكون له ثواب المجاهد؛ لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَّ عنه، وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان, وسلطه الله عليه محنة له؛ ليحق الله الحق, ويبطل الباطل, ولو كره الكافرون .. وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل, وصار لا تمييز له، وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع, ولا يميل إلى الابتداع .. ونقل النووي عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسواس في الوضوء أو الصلاة أن يقول: لا إله إلا الله, فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس، أي: تأخر وبعد، ولا إله إلا الله رأس الذكر. انتهى
وأما عن الكفر فإنه لا يقع إلا بصدور المكفر من عاقل, مختار, قاصد لما يصدر منه.
وأما صاحب الوسواس القهري فلا يؤاخذ بوساوسه, ولا سيما إن كان خائفًا من الكفر, نافرًا منه, فقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - واللفظ لمسلم قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن أحدنا يجد في نفسه - يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحب من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. رواه أحمد
قال النووي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان, وقال: ذلك صريح الإيمان.
ومعناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا, وشدة الخوف منه, ومن النطق به, فضلاً عن اعتقاده, إنما هو لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا، وانتفت عنه الريبة والشكوك.
وقيل معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء, ولا يقتصر في حقه على الوسوسة, بل يتلاعب به كيف أراد.
قال العلماء: والشيء الذي استعظمه الصحابة, وامتنعوا عن الكلام به هو ما يوسوس به الشيطان من نحو: مَن خلق الله؟ وكيف هو؟ ومن أي شيء؟ ونحو ذلك مما يتعاظم النطق به من الأشياء القبيحة التي تخطر في القلوب، وليس معناه أن الوسوسة نفسها هي صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله. اهـ
وكراهة الوسوسة لا تعني عدم الضحك, أو عدم الأكل والشرب .
والله أعلم.