عنوان الفتوى : مناقشة من يأخذ بقول من يبيح سماع المعازف
ما رأي فضيلتكم في إجازة الشيخ القرضاوي، وابن حزم وغيرهما من بعض أهل العلم، لسماع الموسيقى؟ وهل يجوز لأحد أن يأخذ بقولهم كرخصة شرعية لسماع الموسيقى بدون أن يسقط في الإثم؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأغاني المشتملة على الموسيقى ونحوها، محرمة، كما دلت على ذلك النصوص، وإجماع العلماء، وقد سبق بيان ذلك، وذكرنا شبهات من أجاز الموسيقى ونحوها من المعازف، وأجبنا عنها؛ فراجع ذلك في الفتاوى أرقام: 5282 54316 150349 35708 .
والواجب على المؤمن أن يتمسك بالنصوص الشرعية، ولا يلتفت إلى قول أحد إذا خالف النصوص، والأدلة على تحريم الموسيقى متكاثرة، ومن أصرحها الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر، والحرير، والخمر والمعازف.
قال ابن القيم: وقد حكى الشافعي -رضي الله تعالى عنه- إجماع الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي- رضي الله تعالى عنه-، فإن الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع فضلاً عن أن يعارض بها النصوص وتقدم عليها، عياذاً بالله من الخذلان. اهـ. من الرسالة التبوكية. فكيف إذا كان مع دلالة النصوص الصريحة قد انعقد إجماع العلماء المعتبرين - قبل الإمام ابن حزم - على القول بها.
وقد حذر العلماء من الأخذ بقول ابن حزم في رد حديث المعازف وإباحته لها.
قال العراقي في ألفيته:
وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ حُذِفْ مِعْ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفْ
وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ، أَمَّا الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا بِ " قَالَ " فَكَذِي
عَنْعَنَةٍ، كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ
قال السخاوي في فتح المغيث: (لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ) الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَنْسُوبِ هُنَا لِجَدِّ أَبِيهِ، الْأَنْدَلُسِيِّ، الْقُرْطُبِيِّ، الظَّاهِرِيِّ (الْمُخَالِفِ) فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، نَشَأَتْ عَنْ غَلَطِهِ جُمُودِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، مَعَ سَعَةِ حِفْظِهِ، وَسَيَلَانِ ذِهْنِهِ، كَمَا وَصَفَهُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ. حَيْثُ حَكَمَ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ أَيْضًا، مَعَ تَصْرِيحِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الْعَدْلَ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الْعُدُولِ، فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالسَّمَاعِ، سَوَاءٌ قَالَ: أَنَا أَوْ ثَنَا أَوْ عَنْ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ فُلَانٌ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ، بَلْ وَمَا اكْتَفَى حَتَّى صَرَّحَ لَأَجْلِ تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي إِبَاحَةِ الْمَلَاهِي بِوَضْعِهِ مَعَ كُلِّ مَا فِي الْبَابِ، وَأَخْطَأَ، فَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ.ا هـ. بتصرف.
بل إن كثيرا من العلماء لا يعتدون بخلاف ابن حزم إذا كان خلافه في عصر انعقاد الإجماع، فكيف إن كان مسبوقا به!
قال القرطبي في المفهم: ولقد أحسن القاضي أبو بكر -رحمه الله - حيث قال : إن أهل الظاهر ليسوا من العلماء، ولا من الفقهاء، فلا يعتد بخلافهم، بل هم من جملة العوام، وعلى هذا جل الفقهاء، والأصوليين. اهـ.
ولا يحل للمسلم أن يقلد أحدا من العلماء في قوله بعد أن يتبين له أنه مخالف للنصوص، أو الإجماع، ومن فعل هذا فقد وقع في محذور عظيم، وليس هو بمعذور عند الله.
قال ابن تيمية: ثم ذلك المحرم للحلال، والمحلل للحرام إن كان مجتهدا، قصده اتباع الرسول، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان، واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ... وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده، ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية. وإن كان متبوعه مصيبا؛ لم يكن عمله صالحا. وإن كان متبوعه مخطئا؛ كان آثما .اهـ. بتصرف من مجموع الفتاوى.
فليس لأحد أن يأخذ بزلة من أباح المعازف، وليس هذا برخصة شرعية البتة، فإن الخلاف في نفسه ليس بدليل شرعي، ولا يؤثر على حكم الله بشيء.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله. اهـ .
وقال ابن تيمية: تعليل الأحكام بالخلاف، علة باطلة في الأمر نفسه؛ فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلّق الشارع بها الأحكام في الأمر نفسه، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم .اهـ. من مجموع الفتاوى.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 4145
والله أعلم.