عنوان الفتوى : مفهوم العدد في افتراق أهل الكتاب وافتراق هذه الأمة
لدي إشكال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقه، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ـ فإن النصارى افترقوا على أكثر من مائة فرقة، وشاهدت مقطعا في اليوتيوب أن النصارى أكثر من أربعين ألف طائفة، فما معنى الحديث؟ وهل الحديث يختص بالعدد اثنين وسبعين؟ وكذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخص العدد اثنين وسبعين في أمته ـ نحن المسلمين؟ وهل سيكون الحديث مخالفا لواقعنا إذا افترقنا على أكثر من اثنتين وسبعين فرقة؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الحديث قد روي من حديث أبي هريرة بلفظ: افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.
وروي بلفظ آخر دون شك، فعند أبي داود من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعا: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ـ وقد سبق بيان صحة هذا الحديث، والكلام على معناه في الفتاوى التالية أرقامها: 12682 17713، 52059.
أما الإشكال الذي ذكره الأخ السائل: فجوابه: أنه إن ثبت افتراق النصارى على أكثر من اثنتين وسبعين فرقة فيقال: إن أصول تلك الفرق ترجع إلى اثنتين وسبعين فرقة، أو يقال: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو ما افترقت عليه النصارى إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، ثم ظهرت فرق أخرى بعد ذلك، على أن مفهوم العدد من أضعف مفاهيم المخالفة، وهو مختلف في حجيته، جاء في التحرير للمرداوي: العدد لغير مبالغة كثمانين جلدة، قال به أحمد، وأكثر أصحابه، ومالك، وبعض الشافعية، وحكي عن الشافعي، ونفاه ابن شاقلا، والقاضي، والحنفية، والأشعرية، وأكثر الشافعية، وجعله أبو المعالي وأبو الطيب وجمع من قسم الصفات. اهـ.
فعلى القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة فلا إشكال في الحديث، لأن الإخبار باثنتين وسبعين لا ينفي أن يكون هناك افتراق على ما هو أكثر من هذ العدد، وكذلك الحال في افتراق هذه الأمة، فإن وجدت فرق زائدة على ما أُخبر به في الحديث فيقال: إن أصول الفرق ترجع إلى ثلاث وسبعين فرقة، مع العلم أن المراد بالأمة في هذا الحديث هي أمة الإجابة، فالفرق المكفرة لا تدخل في هذا الحديث، كما جاء عن الإمام عبد الله بن المبارك وغيره، جاء في شرح الطحاوية للشيخ الدكتور سفر الحوالي: للعلماء في هذا العدد وجهتا نظر:
الأولى: أن المقصود بالعدد هو: التكثير، حيث إن مفهوم العدد مُطَّرَح، فليست الفرق محدودة أو محصورة بثلاث وسبعين وإنما المقصود التكثير، وهو أن النصارى اختلفوا أكثر من اليهود، والأمة الإسلامية ستفترق أكثر من النصارى، فالعدد لا مفهوم له، وإنما المقصود مجرد التكثير، وقالوا: لو نظرنا إلى الفرق لوجدنا أن فرق الرافضة تزيد عن سبعين فرقة، الخوارج تزيد عن أربعين أو خمسين فرقة، ثم ظهرت الصوفية، وظهرت الطرق، وفي العصر الحديث ظهرت فرق لم تكن موجودة من قبل، كـالقاديانية، والبهائية، وإلى الآن توجد وتظهر فرق، ففي أمريكا بالذات تظهر فرق غريبة جداً في هذه الأيام، وكذلك في أوروبا، وفي الهند، وكلها تنتمي إلى الإسلام، إذاً: المقصود من العدد هو التكثير لا الحصر.
الوجهة الثانية: قال بعضهم: إن العدد مقصود، ولكن الثلاث والسبعين فرقة هي الأصول، وعليه فنستطيع أن نأتي بأصل الفرق، فنقول: الشيعة واحدة من الثلاث والسبعين، وكل ما تفرع عنها فهو فرع لها ولا يعد أصلاً، وكذلك الخوارج هي أصل أيضاً، وكل ما تفرع عنها لا يعد فرقة مستقلة، وإنما هو ضمن أصلها، ويكون الرقم ـ 73 ـ بمعنى المنهج والأصل العام الذي تتشعب منه فرق أخرى، ولكن على كلا القولين لا نستطيع أن نجزم بأن فرقة معينة هي من الثلاث والسبعين فرقة، أو نطبق هذا الرقم على فرق معينة، ونحصرها، فقد أخطأ الشهرستاني في الملل والنحل وأخطأ معه كثير من المؤلفين في الفرق عندما طابق ما ورد ذكره في الحديث من ثلاث وسبعين فرقة على الفرق التي عرفها، وقال: الفرقة الأولى كذا، والفرقة الثانية كذا... حتى أكمل الثلاث والسبعين فرقة، فماذا نقول عن الفرق التي ظهرت فيما بعد؟! ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يقول: هذه الفرقة من الثلاث والسبعين إلا بدليل يدل على ذلك ـ فنحن لا نستطيع أن نذكر فرقة معينة ونقول: هي الأربعون أو الثلاثون، لكن نستطيع أن نقول: إن كل فرقة انحرفت وخرجت عن أهل السنة الذين هم الفرقة الناجية، فهي من الثلاث والسبعين ككل، فلا نعرف كم رقمها، ولا نعرف هل هي أصل أم فرع، المهم عندنا ـ والذي نجزم به ـ هو أن الفرقة الناجية هي فرقة واحدة، والفرق الهالكة هي من الثلاث والسبعين، فكل فرقة هالكة ـ بخروجها عن منهج أهل السنة والجماعة ـ فهي من الثلاث والسبعين. اهـ.
والله أعلم.