عنوان الفتوى : مسألة تفضيل الرخصة في الأحكام الفقهية أم تفضيل العزيمة
مبديئاً وقبل حديثي أقول لكم إنني أحب أن آخذ بالقول الراجح في أمور حياتي، لكن ربما يرى الإنسان راحته النفسية في الأخذ بالقول المرجوح أحياناً، ولا يوجد أي مانع من الأخذ بقول عالم معتبر ممن يوثق فيهم، أو يشهد لهم بالعلم ـ وأعلم أن لذلك بعض الشروط ـ أن يكون من أفتى بالقول المرجوح من أهل العلم يعتد به ويعتمد عليه, وأن لا يكثر المستفتي من الأخذ بالمرجوح حتى لا تنقلب فوضى ويكون تابعاً لهواه، أي من الممكن مثلاً الأخذ في مسألتين أو ثلاث أو ماشابه ذلك حتى لا يترك الحبل على غاربه ـ كما يقال ـ ويكون تابعاً لهواه في كل أموره مما يخرج عن حبل التكليف، وإذ كان ذلك في الأصل جائزا عند كثير من الفقهاء والأصوليين ـ بشرط أن يكون هناك دليل ومرجع شرعي لذلك وليس من باب اتباع الهوى, وشهواته, وقصد التقاط الرخص وتتبعها, وأن لا تكون أقوال شاذة مثل الربا ومصافحة النساء وغيره.... إلخ وأن قول جمهور العلماء أن الأصل في الرخص الإباحة، والفقهاء والأصوليون انقسموا إلى ثلاثة أقوال في الأخذ بالرخص: بالطبع فيما دون الرخص الشرعية التي أقرها الشرع: القول الأول: المنع مطلقاً، ومن منعه عموماً أجازه للضرورة. ملاحظة: الذي أعرفه أن الفريق الأول الذي منعه منعه إذا كان مقلدا لمذهب واحد. الفريق الثاني: أجاز اتباع الرخص، وهو قول معروف. الفريق الثالث: فيه تفصيل: قرأت وجهين في القول الثالث: القول الأول: للآمدي وابن الحاجب وإمام الحرمين، قول في التفصيل. القول الثاني: للعز بن عبد السلام والقرافي والعطار ابن تيمية، قول في التفصيل. لذلك إذا استطاع شيوخنا الكرام توضيح القول الثالث. هذا ما أعرفه من قديم عن كل ما يخص الرخص والعزائم، وما أعرفه أيضاً عن قول العلماء أن فريقا اختار الأخذ بالرخص، وفريقا اختار الأخذ بالعزيمة، ولا يوجد قول مرجح على الآخر، إلا أنني فوجئت بأحد المواقع الإسلامية، وبالصدفة صادفني موضوع الرخص، يقول: القول الأول: أن الأفضل الأخذ بالعزيمة. القول الثاني: أن الأفضل الأخذ بالرخصة. القول الثالث: أنه لا تفضيل بين الرخصة والعزيمة، وذلك لأن سبب الرخصة ـ وهو العذر من أجل الحاجة والضرورة ـ ليس له ضابط معين، فالأمر فيه نسبي يختلف من شخص لآخر، لا أكذب عليكم قد تعجبت كثيرا. فالفريق الثالث، فريقان: فريق: قال بأن الأخذ بالرخص أفضل، وفريق قال إن الأخذ بالعزيمة أفضل، فمن أين جاء الفريق الثالث؟ ومن هم؟ أم هم قوم رأيهم ضعيف لم يستند أحد إليه، والذي أستنبطه ـ والله أعلم ـ أنهم علقوا على من يأخذ بالرخص كثيراً في حال الضرورة أو الحاجة إذ أصبحت الرخصة هنا شيئا طبيعيا بسبب المشقة سواء مشقة حاجة أو ضرورة، فلا يوجد مفضل لواحد على الآخر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسبب إشكال السائل هو خلطه بين مفهوم الرخصة الثابتة بالشرع، وهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، والتي تطلق في مقابل العزيمة، وبين مفهوم رخص المذاهب الفقهية، بمعنى الأخذ بالأيسر من كل مذهب، أو تتبع رخص المذاهب، فتتبع الرخص الفقهية اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
ـ الأول: المنع مطلقا، وإليه ذهب ابن حزم، والغزالي، والنووي، والسبكي، وابن القيم، والشاطبي، ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على ذلك.
ـ الثاني: الجواز، وإليه ذهب بعض الحنفية: كالسرخسي وابن الهمام.
ـ الثالث: الجواز بشروط، وقد اختلف القائلون بذلك في بيان الشروط وعدها، فاشترط العز بن عبد السلام ألا يترتب عليه ما يُنقَض به حكم الحاكم، وهو ما خالف النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الإجماع، أو القواعد الكلية، أو القياس الجلي، وزاد القرافي ألاّ يجمع بين المذاهب على وجهٍ يخرق به الإجماع.
وهناك من زاد شروطا أخرى، والمقصود أن هذا الخلاف إنما يجري في مسألة الأخذ برخص الفقهاء أو ما يعرف بتتبع الرخص.
وأما الرخص الشرعية: فالخلاف بين العلماء ليس في جواز العمل بها، وإنما في المفاضلة بين ذلك وبين الأخذ بالعزيمة، فمن العلماء من فضل العمل بالرخصة الشرعية مطلقا، ومنهم من عكس، ومنهم من فصَّل في ذلك بحسب حال المكلف وذهب إلى عدم التفضيل مطلقا، وقد أورد الشاطبي أدلة تفضيل الرخصة، وأدلة تفضيل العزيمة، ثم قال: فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة، وذلك وضع إشكال في المسألة، فهل له مخلص أم لا؟ قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما: أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد، فإنما أورد هنا استدلال كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفا على المجتهد، حتى يترجح له أحدهما مطلقا، أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب الأحوال.
والثاني: أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب ـ المقاصد ـ في تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تؤمل الموضعان، ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله. اهـ.
وهذا يعني أن اختلاف الحال وتباين قدرة المكلفين ترجح الرخصة أحيانا والعزيمة أحيانا، وهذا يتوقف على نظر المجتهد في كل حال بخصوصه، وذكر الدكتور عبد الكريم النملة في كتابه: المهذب في علم أصول الفقه المقارن ـ اختلاف العلماء في ذلك، وذكر أدلتهم، ثم قال: والحق عندي ـ والله أعلم ـ أنه لا تفضل الرخصة على العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة، وذلك لأن سبب الرخصة ـ وهو العذر من مشقة، وحاجة، وضرورة ـ لا ضابط له معين واضح جلي يتساوى فيه جميع المكلَّفين، فالعذر من مشقة وحاجة وضرورة أمر إضافي نسبي، لا أصلي، فكل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها ما لم يجد مانعا شرعيا يمنعه عن الأخذ بها، وهو داخل تحت قاعدة: المشقة تجلب التيسير ـ فالمشقة والكلفة التي يجدها المكلف عن الإتيان بالحكم الشرعي الأصلي تكون سبباً شرعيا للتخفيف والتسهيل، وهو أيضاً داخل في معنى قاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع... وقلنا: إن كل مكلَّف يعتبر فقيه نفسه، هذا من حيث الجملة، العذر من مشقة أو ضرورة أو حاجة تختلف بحسب الأزمان والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل المشاق على حد سواء، فمثلاً: لو أصاب زيداً من المكلَّفين مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب نفس المرض عمراً، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة لعمرو، دون زيد، وكذلك من كان من المضطرين معتاد على الصبر على الجوع، ولا تختل حالته بسببه، فإنه لا يرخص له في أكل الميتة، بخلاف الشخص الذي لا يستطيع الصبر على الجوع، فهذا يرخص له في أكل الميتة، لأنه يخشى عليه من الهلاك، أو إلحاق ضرر به، فعرفنا أن سبب الرخصة وهو العذر من مشقة وضرر وحاجة ليس له ضابط معين، بل هو أمر إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب، فهو راجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف وإلى اجتهاده في ذلك بحسب طاقته الخاصة... اهـ.
وقد سبق لنا بيان الحكم في كل من الرخص الشرعية والرخص الفقهية، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 4145، 140418، 189635.
والله أعلم.