عنوان الفتوى : بيع المحرمات للكفار .. نظرة شرعية
ما حكم بيع المحرمات لمن يستحلها كالكفار؟ وهل يؤثر في الحكم القول بأن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة فقد جرى بيني وبين أحدهم نقاش فاستدل علي بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه" فذكرت له أنه بافتراض أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة لا يكون الله حرم تلك المحرمات عليهم وإنما هي حل لهم وعليه فتنتفي حجية الحديث وأشباهه في هذا الباب. آمل إجابة طالب علم لا إجابة مستفت فالحاجة إليها ماسة في مجتمعات الغرب. وجزاكم الله كل خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالراجح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا قول جمهور العلماء، قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير: والكفار مخاطبون بالفروع -أي بفروع الإسلام- كالصلاة والزكاة والصوم ونحوها، عند الإمام أحمد والشافعي والأشعرية وأبي بكر الرازي والكرخي وظاهر مذهب مالك، فيما حكاه القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي، وذلك لورود الآيات الشاملة لهم، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا. وقوله تعالى: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ. وقوله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. وقوله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ. وقوله أيضاً: يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. ا.هـ
والمقصود بخطابه بها، أنه يعاقب عليها في الآخرة، لا أنه يُطالب بفعلها في الدنيا.
قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: فالكافر الأصلي مخاطب بها خطاب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها بالإسلام ،لا خطاب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه. ا.هـ
وقال في شرح الكوكب المنير: والفائدة أي: فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها. ا.هـ
ونقل ابن النجار عن النووي قوله: ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا على الكفر وحده. ا.هـ
ومما استدل به جمهور العلماء على ما ذهبوا إليه:
- قول الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]. قال ابن النجار: أي فوق عذاب الكفر، وذلك إنما هو على بقية عبادات الشرع. ا.هـ
- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
وجه الدلالة أن لفظ (الناس) اسم جنس معرف بأل الاستغراقية، فيشمل جميع الناس، والكفار من جملة الناس، ولا يوجد مانع عقلي من دخول الكفار في هذا الخطاب، والمانع العقلي هنا هو فقد التحكم من الفعل، والكافر يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإيمان، كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدِّم عليها الطهارة، ولا يوجد مانع شرعي كذلك، لأنه لو وجد لعرفناه.
- قوله تعالى عن أهل النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46].
وجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم إنما عاقبهم يوم القيامة، وسئلوا عما عاقبهم لأجله فاعترفوا بأنهم عوقبوا على ترك إقامة الصلاة، وإطعام الطعام، فدل على أن الخطاب متوجه إليهم بالعبادات.
- قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7].
وجه الدلالة: أن الله تعالى توعد المشركين على شركهم، وعلى ترك إيتاء الزكاة، فدل ذلك على أنهم مخاطبون بالاثنين معاً، لأنه لا يتوعد على ترك الصلاة ما لا يجب على الإنسان.
- قوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32].
وجه الدلالة: أن الله تعالى ذم -هنا- الكفار لتركهم الصلاة، وهي من فروع الشريعة، مما يدل على أن الكفار مكلفون بالفروع.
وغير ذلك من الأدلة على قوة مذهب الجمهور مع العلم بأن العلماء قد أجمعوا على خطاب الكفار بأصل الإيمان، والعقوبات كالحدود والقصاص، والمعاملات كالبيع والشراء.
قال في التوضيح: ذكر الإمام السرخسي لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان، والعقوبات والمعاملات، وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة لقوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.
وقال التفتازاني في التلويح شرحاً لذلك: اعلم أن الكفار مخاطبون بالثلاثة: الأول مطلقاً إجماعاً، أما بالعبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقاً أيضاً. ا.هـ
وقال ابن النجار في شرح الكوكب المنير: كما أنهم مخاطبون بالإيمان والإسلام إجماعاً لإمكان تحصيل الشرط، وهو الإيمان. ا.هـ
يقصد أن تحصيل الإيمان شرط لصحة العبادات منهم، فوجب عليهم.
والسبب في تكليف الكفار بالمعاملات أن المعاملات قُصِد بها الحياة الدنيا، فالكفار بها أنسب، لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، والسبب في تكليفهم بالعقوبات: أن العقوبات قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها، والكفار أحق بالزجر وأولى به من المؤمنين.
ومن هذا تعلم أيها السائل الكريم أن الكفار مخاطبون بأحكام المعاملات بإجماع العلماء، ولا مدخل للقول بعدم مخاطبتهم بفروع الشريعة في المسألة المذكورة.
وبناءً على ذلك، فإنه لا يحل أن نبيع لهم أو أن نشتري منهم شيئاً حرمه الله في شريعة الإسلام الخاتمة، وراجع في هذا الفتوى رقم: 9757، والفتوى رقم: 3691.
والله أعلم.