عنوان الفتوى : من أسباب الخشوع في الصلاة وطرد وساوس الشيطان
سؤالي باختصار: كنت أعاني من الوسوسة في العقيدة، وبفضل الله عز وجل سيطرت عليها وتجاهلتها وأصبحت أمارس حياتي بشكل عادي وأجاهد كثيرا وأحتسب الأجرعند الله على هذا الابتلاء وأتوكل عليه سبحانه، ولكن عندما تأتيني الوسوسة في الصلاة وأنا بنية عبادة الله لا أستطيع دفعها إلا بالتفكّر باسم الله الأعظم وبأنه في الأعلى سبحانه وأنه يراني ويسمعني بما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فهل إذا استحضرت أسماء الله بأنني أعبد مالك هذه الأسماء الحسنى الجليلة وأتفكّر في عظمة صاحب هذا الاسم ـ الله ـ وأحيانا أكمل باقي عظمة أسمائه الرحمن والرحيم والقوي وأبحر باستحضار عظمته فتكون صلاتي أفضل وأقرب للخشوع من أي وقت، فأنا أفعل ذلك لردع الشيطان وكسر شوكته من أن يطير بي بأفكار لا أسمح له أبدا بإتمامها ولله الفضل، وأنا قوية بتوكلي على الله وتضرعي له بالدعاء ليلا ونهارا ولن أخضع أبدا لأفكار الشيطان ووصلت مرحلة جيدة جدا جدا من التخلص من هذا الرجيم، وأسأل الله أن يقوي عزيمتي وإيماني ويثبتني، وأريد أن أدرأ عن نفسي الشبهة وتكون حجتي على الشيطان اللعين قوية ولا تردّد فيها، فهل ما أقوم به صحيح شرعا ـ من تفكّري باسم الله وتأتيني بقوة وإخلاص عظيمين له سبحانه وسعادة ولله الحمد وأنني أعبده هو فهو الوحيد الذي تحق لي عبادته، علما بأنني أفعل هذا لكي لا أتخيل الذات الإلهية أبدا فأكتفي بالاسم العظيم وأنه إلهي ولا إله غيره سبحانه من غير تخيّل أبدا، وبعض المشايخ يقولون إنه يجب أن تتفكر في الموت أو أهوال يوم القيامة، ولكنني في مرحلة محاربة الشيطان بالعقيدة ولا أريد له سبيلا علي، أريد نية العبادة لله بكل قوة وثقة، لأنه يتغنى على رأسي من هذه الزاوية ولن أفتح له الباب أبدا، وجزاكم الله خيرا ونفع بكم الأمة الإسلامية.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما تفعله الأخت السائلة من استحضار معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى من أنفع ما يكون لصلاح القلب وتهيئة النفس للعبادة، بل إن ذلك أصل معرفة الله تعالى التي هي أصل كل طاعة، قال الشيخ التويجري في موسوعة فقه القلوب: أصل كل طاعة ونجاة إنما هو الفكر في أسماء الله وصفاته، وأفعاله وخزائنه، وفيما خلق له الإنسان، وفيما أمر به، وفيما أعد له من النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، فتولد تلك المعرفة بالله إقبالاً ونشاطاً بحسب قوتها أو ضعفها فيزداد القلب فرحاً وأنساً بربه وتتلذذ الجوارح بالطاعة والعبادة. اهـ.
وهذا مما ينبغي مراعاته حال الصلاة، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة. رواه البخاري ومسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
قال الزرقاني في شرح الموطأ: قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة، وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة... وفيه كما قال الباجي: تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها. اهـ.
وقد عقد الدكتور سعيد القحطاني في كتابه الخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة مبحثا عن الأسباب التي تزيل الغفلة وتجلب الخشوع في الصلاة، فكان السبب الأول منها: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وألوهيَّته وربوبيَّته وختمه بقول ابن القيم: وجِمَاعُ ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرُّدِهِ بذلك، وتعلُّقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهاً في أوامره ونواهيه، فقيهاً في قضائه وقدره، فقيهاً في أسمائه وصفاته، فقيهاً في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. اهـ.
وهذا هو مفتاح مقام الإحسان في العبادة بصفة عامة، حيث فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. متفق عليه.
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد فسر طائفة من العلماء المثل الأعلى المذكور في قوله عز وجل: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ـ بهذا المعنى، ومثله قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ـ والمراد: مثل نوره في قلب المؤمن، كذا قال أبي بن كعب وغيره من السلف، وقد سبق حديث: أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت ـ وحديث: ما تزكية المرء نفسه؟ قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان... وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، وقوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم، وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا، وقوله: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه، وقوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، وقوله: ولا يستخفون من الله وهو معهم ـ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات، كقوله صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا قام يصلي، فإنما يناجي ربه، أو ربه بينه وبين القبلة، وقوله: إن الله قبل وجهه إذا صلى، وقوله: إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت... قال بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم، خلي بينك وبين المحراب والماء، كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكره الله وعبادته استأنس بالله، واستوحش من خلقه ضرورة. اهـ.
ولا تعارض بين هذا وبين ذكر الموت في الصلاة، فكلاهما من أسباب حضور القلب وخشوعه، وقد جمع الله تعالى بين المعنيين في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {البقرة:45ـ 46}.
والله أعلم.