عنوان الفتوى : الاعتذار عن استقبال أولاد الجيران والإمساك عما لا يمكن الاستغناء عنه من حاجات
نحن نسكن في عمارة في 4 شقق، والجهة التي نخرج منها فيها شقتنا في أعلى دور، وتحتنا شقتان، والشقة الرابعة لها باب آخر. نعيش في هذه الشقة أنا، وأمي، وأختي، وابنتها الصغيرة. وليس معنا رجل يلبي حاجاتنا، أبي مغترب، وأختي مطلقة؛ لذلك نحن نقوم بخدمة أنفسنا ولا نطلب أي خدمات من أحد الجيران. لأننا جربنا بعض المرات أن نطلب منهم لكن شعرنا بأنهم لا يريدون. والأغرب من ذلك أن إحدى جاراتنا ترسل أبناءها لطلب بعض الحاجيات البسيطة رغم وجود البقالات تحت العمارة. ولديها ابن عمره 14 عاما يستطيع خدمتها، وزوجها كذلك !! أحياناً نحرج، يكون الشيء الذي يطلبونه قد بقي منه القليل لدينا. ورغم هذا نعطيهم ونحرج أن نرفض كما أنه ليس من أخلاقنا. فهل يجوز الرفض أحياناً دون أن نتحمل ذنب الكذب؟ وجارتنا الأخرى تجعل أبناءها الاثنين الصغار يصعدان ليلعبا مع ابنة أختي ذات الأربع سنوات، وأحد هؤلاء الأولاد عمره 7 والآخر 5. وحينما يأتون يدخلون دورة المياه ولا يستخدمون الماء، يعني لا يتطهرون. ونحن الحمد لله بيتنا نظيف، ولا نريدهم أن يتسببوا في نجاسة الأماكن. كما أننا لا نريد أن تتعلم بنت أختي حركات الأولاد؛ لأنها فتاة والأولاد حركاتهم غير البنات. فقررنا أنهم حينما يأتون لا نفتح الباب. أليس من حقنا عدم فتح الباب إذا لم نرد ذلك كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولما رأتنا أمهم ذات يوم شعرنا أنها غضبت وقالت: طرقنا الباب ولم تجيبوا ؟؟ لم نعرف بماذا نرد عليها ؟؟؟ لماذا الناس يحرجونا أليس من حقنا كما قال النبي ألا نفتح إذا كنا لا نريد؟ نسيت الحديث . وكيف نتحاشى مجيء أطفالهم عندنا بدون أن يسبب ذلك في قطيعة بيننا وبين الجيران؟ أما الشقة التي في الجهة الأخرى فتسكن بها جارة طيبة في تعاملها ولكن زوجها -هداه الله- كان حينما يرانا في الشارع قرب البيت يحاول إيذاءنا بسوء تصرفاته. فمثلاً في إحدى المرات ذهبت أختي للبقالة بأدب واحترام واحتشام لتشتري بعض الأغراض، فجاء ووقف جنبها يكلمها كأنه يعرفها. ماذا سيقول الناس عنّا إذا رأوه بهذا الشكل. وفي إحدى المرات أيضاً احتجنا مهندسا يصلح لنا جهازا، فكانت أختي في مدخل العمارة تقف مع المهندس، وابن أختي الأخرى، فجاء هذا الجار يتدخل في الكلام ويسأل وكأنه يعرفنا، فشعرت أختي بالإحراج كثيراً، ورجعت تبكي؛ لأنه يجعلنا كأننا متعودين عليه ونحادثه دائماً. لهذا انقطعنا عن زيارة زوجته. ولا نستطيع إعطاءها شيئا من الطعام في رمضان وغيره؛ لأننا نخشى من أذية زوجها، ولا نريد أن نتسبب في مشاكل بينها وبينه؛ لأنها مسكينة لا تعلم بأفعاله. فهل علينا إثم بمقاطعتها، مع العلم أننا حينما نجدها في الشارع نسلم عليها؟ أما بقية الجيران-يعلم الله أننا رغم أننا نساء لوحدنا لكننا نتودد إليهم بما يقدرنا الله عليه. وجزاكم الله خيراً
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن حق الجار على جاره حق عظيم, يقول ربنا تعالى في الوصية بالجار: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا {النساء:36}.
فينبغي الحرص على الإحسان إلى الجار وصتله، ولا ينبغي ترك الصلة إلا لمصلحة شرعية معتبرة، كأن يكون التواصل معه يوقع في الحرام، أو يحصل به الضرر ونحو ذلك، وليس حديث المرأة وتبسطها فيه مع جارها الرجل من هذه الصلة الممدوحة، بل ذلك باب فتنة وشر على المسلمة التحرز منه.
ولا شك أنكم مأجورون على مساعدتكم للجيران بما تيسر من طعام ونحوه، ونرجو الله أن يخلفكم ويعوضكم؛ فقد قال الله تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا {المزمل:20}، وقال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {سبأ:39}
ومع هذا، فإنكم لو أمسكتم مما يطلب جيرانكم ما تسدون به حاجتكم، كان ذلك خيرا لكم، فقد حض الشارع على تقديم الإنسان نفسه وأسرته فيما عنده، بل أوجبه بعض أهل العلم إن كان إنفاقه وتصدقه يضر به أو بعياله؛ ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا. فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار. قال: تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على ولدك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على خادمك. قال: عندي آخر. قال: أنت أبصر. رواه النسائي وأبو داود، وصححه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته. رواه مسلم.
وفي الحديث: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول .
قال النووي في شرح هذا الحديث: معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها، ويستظهر به على مصالحه وحوائجه ... انتهى.
وقال العيني في عمدة القاري: والمعنى أن شرط التصدق أن لا يكون محتاجا ولا أهله [محتاجين] ولا يكون عليه دين، فإذا كان عليه دين فالواجب أن يقضي دينه. وقضاء الدين أحق من الصدقة، والعتق، والهبة؛ لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل. وليس لأحد إتلاف نفسه وإتلاف أهله وإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه وأهله، إذ هما أوجب عليه من حق سائر الناس. اهـ.
وفي فتح الباري: والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عنه نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. اهـ
وعلى هذا؛ فلكم الاعتذار لمن سألكم ما لا تستغنون عنه، ويمكن استخدام التورية في ذلك، فقد قال عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد.
وكذا لكم الاعتذار عن استقبال الصغار برفق، وينبغي لأهلهم أن يتفهموا ذلك منكم، وألا يغضبوا إذا اعتذرتم عن استقبالهم أو استقبال أولادهم؛ وقد قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {النور:28}.
جاء في تفسير ابن كثير: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ. أي: إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده "فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ" أي: رجوعكم أزكى لكم وأطهر "وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ"، وقال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبتُ عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: ارجع. فأرجع وأنا مغتبط (لقوله)، (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. انتهى.
وقال السعدي رحمه الله: أي: فلا تمتنعوا من الرجوع، ولا تغضبوا منه، فإن صاحب المنزل، لم يمنعكم حقاً واجباً لكم، وإنما هو متبرع، فإن شاء أذن أو منع، فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز من هذه الحال (هو أزكى لكم) أي: أشد لتطهيركم من السيئات وتنميتكم بالحسنات. انتهى.
والله أعلم.