عنوان الفتوى : كل ما خطر ببالك ، فالله بخلاف ذلك !!
هل هذه العبارة صحيحة : كل ما خطر ببالك ، فالله بخلاف ذلك ؟ وهل يمنع الإنسان من التفكر في شيء من أسماء الله وصفاته ؟
الحمد لله
أولا :
لا ريب أن التفكر في أسماء الله جل جلاله وصفاته التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها لها
نبيه صلى الله عليه وسلم ، والتعبد لله بمقتضى ذلك ، هو من أعظم ما يفتح على العبد
من المعارف والعلوم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض
الناس على بعض ، أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم .
ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله ، والثناء عليه، وتعظيمه وتقديسه، وتسبيحه
وتكبيره ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله." انتهى من "درء تعارض العقل
والنقل" (7/129) .
ومتى تفكر العبد فيما ينبغي لله جل جلاله من ذلك ، وطرق باب معرفته سبحانه من حيث
أمر ، فتح عليه من أبواب المعرفة والعبودية بحسب ما وفق له من ذلك ؛ فمن مقل
ومستكثر .
قال ابن القيم رحمه الله :
" الْقُرْآن كَلَام الله ، وَقد تجلى الله فِيهِ لِعِبَادِهِ بصِفَاته :
فَتَارَة يتجلى فِي جِلْبَاب الهيبة وَالْعَظَمَة والجلال ، فتخضع الْأَعْنَاق
وتنكسر النُّفُوس وتخشع الْأَصْوَات ، ويذوب الْكبر كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء .
وَتارَة يتجلى فِي صِفَات الْجمال والكمال ، وَهُوَ كَمَال الْأَسْمَاء ، وجمال
الصِّفَات ، وجمال الْأَفْعَال الدَّال على كَمَال الذَّات ؛ فيستنفد حبُّه من قلب
العَبْد قُوَّة الْحبّ كلهَا ، بحسب مَا عرفه من صِفَات جماله ونعوت كَمَاله ،
فَيُصْبِح فؤاد عَبده فَارغًا إِلَّا من محبته ...
وَإِذا تجلى بِصِفَات الرَّحْمَة وَالْبر واللطف وَالْإِحْسَان ، انبعثت قُوَّة
الرَّجَاء من العَبْد وانبسط أمله ، وَقَوي طمعه ، وَسَار إِلَى ربه وحادى
الرَّجَاء يَحْدُو ركاب سيره ، وَكلما قوي الرَّجَاء جد فِي الْعَمَل ، كَمَا أَن
الباذر كلما قوي طمعه فِي الْمغل ، غلَّق أرضه بالبذر ، وَإِذا ضعف رجاؤه قصر فِي
الْبذر .
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعدْل والانتقام وَالْغَضَب والسخط والعقوبة ، انقمعت
النَّفس الأمارة ، وَبَطلَت أَو ضعفت قواها من الشَّهْوَة وَالْغَضَب وَاللَّهْو
واللعب والحرص على الْمُحرمَات ...
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْأَمر وَالنَّهْي والعهد وَالْوَصِيَّة وإرسال الرُّسُل
وإنزال الْكتب وشرع الشَّرَائِع ، انبعثت مِنْهَا قُوَّة الِامْتِثَال والتنفيذ
لأوامره ، والتبليغ لَهَا والتواصي بهَا ، وَذكرهَا وتذكرها ، والتصديق بالْخبر ،
والامتثال للطلب ، والاجتناب للنَّهْي .
وَإِذا تجلى بِصفة السّمع وَالْبَصَر وَالْعلم انْبَعَثَ من العَبْد قُوَّة
الْحيَاء ، فيستحي ربه أَن يرَاهُ على مَا يكره ، أَو يسمع مِنْهُ مَا يكره ، أَو
يخفي فِي سَرِيرَته مَا يمقته عَلَيْهِ ، فَتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة
بميزان الشَّرْع ، غير مُهْملَة وَلَا مُرْسلَة تَحت حكم الطبيعة والهوى .
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْكِفَايَة والحسب وَالْقِيَام بمصالح الْعباد وسوق
أَرْزَاقهم إِلَيْهِم ، وَدفع المصائب عَنْهُم ، وَنَصره لأوليائه ، وحمايته لَهُم
، ومعيته الْخَاصَّة لَهُم : انبعثت من العَبْد قُوَّة التَّوَكُّل عَلَيْهِ
والتفويض إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ فِي كل مَا يجريه على عَبده ، ويقيمه فيه ،
مِمَّا يرضى بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ ...
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعِزّ والكبرياء ، أَعْطَتْ نَفسه المطمئنة مَا وصلت
إِلَيْهِ من الذل لعظمته ، والانكسار لعزته ، والخضوع لكبريائه ، وخشوع الْقلب
والجوارح لَهُ ؛ فتعلوه السكينَة وَالْوَقار فِي قلبه وَلسَانه وجوارحه وسمته ،
وَيذْهب طيشه وقوته وحدته .
وجماع ذَلِك : أَنه سُبْحَانَهُ يتعرف إِلَى العَبْد بِصِفَات إلهيته تارّة ،
وبصفات ربوبيته تَارَة ؛ فَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الإلهية الْمحبَّة الْخَاصَّة
، والشوق إِلَى لِقَائِه ، والأنس والفرح بِهِ ، وَالسُّرُور بخدمته ، والمنافسة
فِي قربه ، والتودد إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ ، واللهج بِذكرِهِ ، والفرار من الْخلق
إِلَيْهِ ، وَيصير هُوَ وَحده همه دون مَا سواهُ .
وَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الربوبية التَّوَكُّل عَلَيْهِ ، والافتقار إِلَيْهِ ،
والاستعانة بِهِ ، والذل والخضوع والانكسار لَهُ .
وَكَمَال ذَلِك أَن يشْهد ربوبيته فِي إلهيته ، وإلهيته فِي ربوبيته ، وحمده فِي
ملكه ، وعزه فِي عَفوه ، وحكمته فِي قَضَائِهِ وَقدره ، وَنعمته فِي بلائه ، وعطاءه
فِي مَنعه ، وبره ولطفه وإحسانه وَرَحمته فِي قيوميته ، وعدله فِي انتقامه ، وجوده
وَكَرمه فِي مغفرته وستره وتجاوزه ، وَيشْهد حكمته وَنعمته فِي أمره وَنَهْيه ،
وعزه فِي رِضَاهُ وغضبه ، وحلمه فِي إمهاله ، وَكَرمه فِي إقباله ، وغناه فِي
إعراضه .
وَأَنت إِذا تدبرت الْقُرْآن ، وأجرته من التحريف وَأَن تقضي عَلَيْهِ بآراء
الْمُتَكَلِّمين ، وأفكار المتكلفين : أشهدك ملكا قيوما فَوق سماواته على عَرْشه ،
يدبر أَمر عباده ، يَأْمر وَيُنْهِي ، وَيُرْسل الرُّسُل ، وَينزل الْكتب ، ويرضى
ويغضب ، ويثيب ويعاقب ، وَيُعْطِي وَيمْنَع ، ويعز ويذل ، ويخفض وَيرْفَع ، يرى من
فَوق سبع وَيسمع ، وَيعلم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة ، فعّال لما يُرِيد ، مَوْصُوف
بِكُل كَمَال ، منزه عَن كل عيب ، لَا تتحرك ذرّة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ
، وَلَا تسْقط ورقة إِلَّا بِعِلْمِهِ ، وَلَا يشفع أحد عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ ،
لَيْسَ لِعِبَادِهِ من دونه ولي وَلَا شَفِيع" . انتهى من "الفوائد" (98-101) ط
المجمع .
ثانيا :
قولهم : " كل ما خطر ببالك ، فالله بخلاف ذلك " ؛ يدخل فيه ـ بهذا الإطلاق ـ نفي
قدر كبير من الحق ، فمن الحق أن يخطر بالبال أن الله سميع بصير حكيم خبير، استوى
على عرشه كيف شاء ، وهكذا سائر ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله صلى الله
عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نحو من ذلك المعنى :
" يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية ، بل وغيرها
؛ فلو كان ذلك كله باطلًا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة ، ولكان أدنى
الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة : ما تخيلته فالله بخلافه ، لا
سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات ." انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (1/436) ط
المجمع .
وأحسن من هذا القول ، وأقعد بالسنة ، قول يحي بن عمار رحمه الله :
" لَا نحتاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى قَول أَكثر من هَذَا : أَن نؤمن بِهِ ، وننفي
الْكَيْفِيَّة عَنهُ ، ونتقي الشَّك فِيهِ ، ونوقن بِأَن مَا قَالَه الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ، وَلَا
نتفكر فِي ذَلِكَ وَلَا نسلط عَلَيْهِ الْوَهم ، والخاطر، والوسواس .
وَتعلم حَقًا يَقِينا أَن كل مَا تصور فِي همك ووهمك من كَيْفيَّة أَو تَشْبِيه ،
فَالله سُبْحَانَهُ بِخِلَافِهِ ، وَغَيرُه ، نقُول: هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْش
، وَعلمه مُحِيط بِكُل شَيْء ." انتهى من "الحجة في بيان المحجة" لقوام السنة
الأصبهاني (2/109) .
فالحاصل :
أن ما خطر بالبال من أسماء الله وصفاته وأفعاله ، التي أثبتها لنفسه في كتابه ،
وأثبتها له رسوله : فهذا حق ، بل واجب اعتقاده ، والله تعالى هو بذلك الوصف الذي
أخبرنا به في كتابه ، وأخبرنا عنه رسوله .
وما خطر بالبال من تشبيه ، أو تمثيل ، أو تكييف لشيء من ذلك ، أو اعتقاد فيه غير ما
ثبت في كتابه ، وسنة نبيه : فهو من الباطل الذي يجب الكف عنه ، وقطع الوهم والظن
عن بابه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |