عنوان الفتوى : تحديد النسل بين الشرع والقانون
ما حكم الإسلام في تحديد النسل ؟ وماذا لو قرر الأطباء للمرأة عدم الحمل لخطورته على صحتها ؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
فإذا كان المقصود بتحديد النسل هو إصدار قانون عام يُلزم الأمة أن تقف بالنسل عند حدٍّ معين فتحديد النسل بهذا المعنى العام تأباه طبيعة الحياة، وتأْباه الحِكمة الإلهية وتأباهُ الشريعة الإسلامية ، أما إذا كان المقصود منْع الحمل مُؤَقَّتًا بين زوجينِ لحالات خاصة ، أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل في الذُّرِّيَّةِ والأحْفاد ، فهو تحديد تُبيحُه الشريعةُ أو تُحتِّمُه على حسب قوة الضرر وضعفه .
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :
فإني أرى أن مسألة: “تحديد النسل” التي عُرضت للبحث في أيامنا الأخيرة من أوضح المُثل التي تناولها النظر واختلاف الرأي، دون أن يُحرَّر بين الباحثين المعنى المراد من كلمة: “تحديد النسل” .
فقد تبادر أن المقصود منها هو إصدار قانون عام، يُلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حدٍّ معين لا فرق في ذلك بين سيدةٍ يَسُوغ إليها الحمل فتُرضع ولدَها السابق لبَن الحمل، وأخرى يُبطئ حملها وتُمضي مدة الرضاع أو أكثر في تربية السابق دون حمل ولا إرضاع في زمن حمل، ولا بين قَوِيٍّ سليم من الأمراض المُتنقلة يَلِدُ أقوياء أصحَّاء، وضعيف مريض بمُتنقِّل يلد ضعفاء مرضى، ولا بين غنيٍّ في سَعة من الرزق يستطيع تربية أبنائه مهما بلغ عددهم، وفقير في ضَيِّقٍ لا يستطيع القيام بتربية أبنائه الكثيرين فيضعف احتماله وتخور أعصابه وتَفسد حياته وقد تتشرَّد مع هذا أبناؤه .
وتحديد النسل بهذا المعنى العام لا يُمكن أن يقصده أحدٌ ما، فضْلًا عن أُمة تُريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدةً وبخطوات سريعة في المشروعات الإنتاجية التي بها تُنافِس الأمم الأخرى، وتردُّ عنها كيْد المستعمرين عن طريق الإنتاج والاقتصاد، وهو بعد هذا تفكير تأْباهُ طبيعة الكون المستمرة في النموِّ .
وتأْباهُ حكمة الحكيم الذي خلَق في الإنسان والحيوان مادةَ التوالُد والتناسُل، وخلَق مقابل ذلك في الأرض وسائر ما خلَق قوة الإنتاج الدائم المُضاعَف، إلا أن المائدة التي أعدَّها الله لعباده في ظاهر الأرض وباطنها، لا يُمكن أن تَضيق عن حاجتهم وحاجة نسْلهم مهما أكثروا ومهما عاشوا، اللهم إلا إذا خانَ صواب الحكمة الإلهية في تقدير المائدة مع تقدير الآكلينَ، سبحانك اللهمَّ، تعالت حِكْمتُك عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا .
وإذا كانت طبيعة الحياة تأبَى هذا التحديد العام. وحِكمة الحكيم تأْباه وتَنَبُّهُ الوعي القومي في الأمة يأْباهُ، فإن الشريعة الإسلامية، وهي شريعة الحكيم، العليم بطبيعة ما خلَق ـ لا يُمكن إلا أن تأباه .
ومن هنا حثَّتِ الشريعة على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة وعلى تهيئة ما تعمل فيه تلك الأيدي، وحثَّت على الزواج وامْتَنَّ الله على الناس بنِعمة البنين والحفَدة كأثر من آثار الزواج، وطمأن النفوس على الرِّزْق، فقال: (واللهُ جعلَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا وجَعَلَ لكمْ مِن أزواجِكمْ بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُمْ مِنَ الطيِّبَاتِ). (الآية: 72 من سورة النحل) وجاء في وصايا الرسول: “تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فإِنِّي مُبَاهٍ بكمُ الأمَمَ يومَ القِيامةِ”. و”سوداء وَلُودٌ خيرٌ مِن حَسناءَ عَقِيمٍ”، “ومَن تَرَكَ الزواجَ مَخَافَةَ العِيَالِ فليسَ مِنَّا”، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أبناءهم مَخافة الفقر فنزل قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خشيةَ إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ). (الآية: 31 من سورة الإسراء). وفي آية أخرى (نحنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ). (الآية: 151 من سورة الأنعام).
وإذنْ :فتحديد النسل بهذا المعنى العام، المُلزم للجميع خروجٌ عن هذه الوصايا، وسَيْرٌ في جو الذينَ حَذَّرَهُمُ اللهُ قتْل الأولاد، خشية الإملاق، وأعتقد أن الذين يدعون إلى تحديد النسل لا يُريدونه بهذا المعنى، فإنْكاره ـ إذن ـ محل اتفاق ويجب أن يكون محل اتَّفاق بين جميع الباحثين.
تنظيم النسل للحالات الخاصَّة:
أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتِي يُسرع إليهن الحملُ، وبالنسبة لذوي الأمراض المُتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائِل الذين تضعُف أعصابهم عن مُواجهة المسئوليات الكثيرة ولا يجدون من حُكوماتهم أو المُوسرين من أمتهم ما يُقويهم على احتمال هذه المسئوليات، إن تنظيم النسْل بشيء من هذا وهو تنظيم فرديٌّ لا يتعدَّى مجالَه شأنٌ علاجي، تدفع به أضرار مُحققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا يُجافي الطبيعة ولا يأباهُ الوعي القومي، ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحثُّ عليه .
فقد حدَّد القرآن مدة الرضاع بحولينِ كاملين وحذَّر الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يرضع الطفل من لبَن الحامل، وهذا يقضي إباحة العمل على وقْف الحمل مدةَ الرضاع، وإذا كانت الشريعة تتطلَّب كثرةً قوية لا هزيلةً، فهي تعمل على صيانة النسل مِن الضعف والهُزال وتعمل على دفع الضرر الذي يلحق الإنسان في حياته ومِن قواعدها : “الضرر مدفوعٌ بقدْر الإمكان”.
ومِن هنا قرَّر العلماء إباحة منْع الحمل مُؤَقَّتًا بين زوجينِ ، أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل في الذُّرِّيَّةِ والأحْفاد، فتنظيم النسل بهذه الأسباب الخاصة التي مِن شأنها ألا تعمَّ الأمة، بل ولا تكون فيها إلا بنسبة ضئيلةٍ جدًّا، تنظيمٌ تُبيحُه الشريعةُ أو تُحتِّمُه على حسب قوة الضرر وضعفه، ولا أظن أن أحدًا يُخالف فيه فهو ـ إذن ـ محل اتفاق .
والله أعلم .