عنوان الفتوى : حكم قتل سفراء الدول الكافرة
ما حكم تهديد من استؤمن من طرف ولي أمر غير شرعي: شاهدت مؤخرا فيديو يهدد فيها أخوان من أنصار الشريعة في ليبيا سفير البورما بالقتل، لما يحدث في البورما من تقتيل للمسلمين، فأرسلت تعليقا استنكرت فيه تهديد إنسان مستأمن واستدللت بقول المولى عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة: 8} وعلى استئمان النبي صلى الله عبيه وسلم لأبي سفيان، فاستنكر صاحب الفيديو ـ من قام بنشره ـ ما قلت وقال لي أحد الإخوة هذه آية منسوخة بالسيف ولم يستأمن من طرف ولي شرعي، فأردت أن أسألكم: 1ـ ما هو حكم من لم يستأمنه ولي أمر شرعي؟ وهل يجوز تهديده مثلما في الفيديو؟ وهل التهديد يعتبر طريقة في الإصلاح نص عليها الشرع؟. 2ـ ما معنى آية منسوخة؟ وهل الآية المنسوخة لا تطبق؟ أم ماذا؟ وما هي أنواع النسخ؟ وما الفرق بين آية منسوخة وآية ليست منسوخة؟ وقد قرأت أيضا أن القرآن بأكمله ليس منسوخا فأرجو توضيح هذا الالتباس، كما أرجو أن تكون الإجابة مشتملة على أدلة من القرآن والسنة وأقوال علمائنا من السلف الصالح, كما أرجو عدم إحالتي إلى أجوبة سابقة، إذ لم أجد جوابا شافيا لأسئلتي في موقعكم لذا التجأت إليكم ب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تكلمنا على النسخ والرد على منكره والفرق بين الآيات المنسوخة وغير المنسوخة، في الفتاوى التالية أرقامها: 13919، 62960، 133677.
وأما عن نسخ آية الممتحنة: فهنالك من ذهب من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولكن الراجح أنها محكمة قال القرطبي في تفسيره: قال أكثر أهل التأويل: هي محكمة واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال: نعم ـ خرجه البخاري ومسلم. اهـ.
وأما عن التعامل مع السفراء: فإن التظاهر والاحتجاج أمام السفارات بشكل سلمي وحكيم تنديدا بجرائم شعوبهم لا حرج فيه، وأما الاعتداء على السفير أو على أشخاص في السفارة ممن بينهم وبين المسلمين عهد أو أمان أو ذمة فإنه لا يجوز، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً. رواه البخاري.
وفي النسائي وغيره من حديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة.
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.
قال الشوكاني: المعاهد: هو الرجل من أهل الحرب يدخل دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله. انتهى.
وأما العهد الذي يعطي لهم: فالأصل العمل به والوفاء به حتى لو كان معطيه فردا ليس أميرا فأحرى إذا كان أميرا، فقد روى أبو داود في السنن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب فسلمت عليه، فقال من هذه؟ فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. وقد بوب البخاري على هذا فقال: باب أمان النساء وجوارهن.
قال الصنعاني في السبل: والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم ذكر أو أنثى حر أم عبد مأذون أو غير مأذون لقوله أدناهم، فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى، وعلى هذا جمهور العلماء إلا عند جماعة من أصحاب مالك فإنهم قالوا لا يصح أمان المرأة إلا بإذن الإمام، وذلك لأنهم حملوا قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: قد أجرنا من أجرت ـ على أنه إجازة منه، قالوا فلو لم يجز لم يصح أمانها، وحمله الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى ما وقع منها وأنه قد انعقد أمانها، لأنه صلى الله عليه وسلم سماها مجيرة، ولأنها داخلة في عموم المسلمين في الحديث على ما يقوله بعض أئمة الأصول أو من باب التغليب بقرينة الحديث الآتي. اهـ.
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: إن كل من أمن أحدا من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيا كان، أو شريفا، حرا كان، أو عبدا، رجلا، أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه. اهـ.
وقال ابن المنذر في الأوسط: أجمع أهل العلم أن أمان والي الجيش أو الرجل الحر الذي يقاتل جائز على جمعهم. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه، وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا، وبهذا قال الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له في القتال، لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي ولأنه مجلوب من دار الكفر فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، رواه البخاري، وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحصرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد ـ ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر، وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له في القتال فإنه يصح أمانه وبالمرأة فإن أمانها يصح في قولهم جميعا، قالت عائشة: إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز، وعن أم هانئ أنها قالت: يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنما يجير على المسلمين أدناهم، رواهما سعيد، وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وجاء في عون المعبود: يسعى بذمتهم ـ أي بأمانهم: أدناهم ـ أي عددا وهو الواحد، أو منزلة، قال في شرح السنة: أي أن واحدا من المسلمين إذا أمن كافرا حرم على عامة المسلمين دمه وإن كان هذا المجير أدناهم، مثل أن يكون عبدا، أو امرأة أو عسيفا تابعا، أو نحو ذلك فلا يخفر ذمته، ويجير عليهم أقصاهم ـ قال الخطابي: معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقدا لم يكن لأحد منهم أن ينقضه وإن كان أقرب دارا من المعقود له. اهـ.
وهذا من محاسن الإسلام، وقد روى عبد الرزاق: ثنا معمر عن عاصم بن سليمان عن فضيل بن يزيد الرقاشي قال: شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا فحاصرناها شهرا حتى إذا كنا ذات يوم وطمعنا أن نصبحهم انصرفنا عنهم عند المقيل فتخلف عبد منا فاستأمنوه فكتب إليهم أمانا ثم رمى به إليهم، فلما رجعنا إليهم خرجوا إلينا في ثيابهم ووضعوا أسلحتهم فقلنا: ما شأنكم؟ فقالوا: أمنتمونا وأخرجوا إليهم السهم فيها كتاب بأمانهم، فقلنا: هذا عبد لا يقدر على شيء، قالوا: لا ندري عبدكم من حركم فقد خرجنا بأمان، فكتبنا إلى عمر، فكتب أن العبد المسلم من المسلمين، وأمانه أمانهم، ورواه ابن أبي شيبة وزاد فأجاز عمر أمانه. اهـ.
والله أعلم.