عنوان الفتوى : لا تعارض بين مشروعية الجزية وعدم الإكراه في الدين
لماذا كان سبب فرض الجزية هو دخول الإسلام، أو القتل، ومن لا يريد أن يُقتل يدفع الجزية. فكيف ذلك والله تعالى قال: لا إكراه في الدين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى أنه لا تعارض بين أخذ الجزية من أهلها، وعدم إكراههم على الدين، بدليل أن كثيرا من اليهود والنصارى بقوا في ديارهم بعد فتح المسلمين لها، وتمسكوا بدينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وعاشوا آمنين بين المسلمين. وهذا باق إلى يوم الناس هذا. فأين الإكراه إذن؟!
قال الإمام ابن القيم في كتابه القيم (هداية الحيارى): أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعا ورغبة واختيارا، لا كرها ولا اضطرارا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل الأرض، وهم خمسة أصناف، قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون، وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها ...
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، استجاب له، ولخلفائه بعده، أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه، فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه؛ امتثالا لأمر ربه سبحانه، حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وهذا نفي في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدا على الدين ... ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه، فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ... اهـ.
وأما عن الحكمة من مشروعية الجزية.
فجاء في (الموسوعة الفقهية) ذكرها من خلال النقاط التالية:
1 - الجزية علامة خضوع، وانقياد لحكم المسلمين.
2 - الجزية وسيلة لهداية أهل الذمة.
3 - الجزية وسيلة للتخلص من الاستئصال والاضطهاد.
4 - الجزية مورد مالي، تستعين به الدولة الإسلامية في الإنفاق على المصالح العامة، والحاجات الأساسية للمجتمع. اهـ.
وذكر فيها تحت البند الثالث، ما نصه: الجزية نعمة عظمى تسدى لأهل الذمة، فهي تعصم أرواحهم، وتمنع عنهم الاضطهاد، وقد أدرك هذه النعمة أهل الذمة الأوائل، فلما رد أبو عبيدة الجزية على أهل حمص لعدم استطاعته توفير الحماية لهم، قالوا لولاته: والله لولايتكم وعدلكم، أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، فقد أقر أهل حمص بأن حكم المسلمين مع خلافهم لهم في الدين، أحب إليهم من حكم أبناء دينهم، وذلك لما ينطوي عليه ذلك الحكم من ظلم وجور، واضطهاد، وعدم احترام للنفس الإنسانية. اهـ.
ثم إنه لا يخفى أن أي دولة في العالم، لا تقبل أن يعيش فيها من لا يخضع لسلطانها، ويجري عليه حكمها، وهذا هو معنى الصغار في قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: سمعت عدداً من أهل العلم يقولون: الصَّغار أن يجري عليهم حكم الإسلام، وما أشبه ما قالوا، بما قالوا؛ لامتناعهم من الإسلام. فإذا جرى عليهم حكمه، فقد أصغِروا بما يجري عليهم منه. اهـ.
وقال ابن القيم في (أحكام أهل الذمة): هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار. اهـ.
وجاء في (تفسير المنار): والمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته، الذي تصغر به أنفسهم لديهم بفقدهم الملك، وعجزهم عن مقاومة الحكم. اهـ.
وراجعي تفسير هذه الآية، في الفتوى رقم: 162823.
وأما الحكمة من مشروعية الجزية، وعلاقة ذلك بقوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] فقد سبق أن تناولناه في الفتويين: 170755، 199777.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 59982، 189807.
والله أعلم.