عنوان الفتوى : هل الأفضل العيش والموت بالمدينة أم بمكة أم بالشام
علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أفضل البلاد هي مكة والمدينة والشام ومن قبله كتاب ربنا، وأخبر بفضائل السكن في هذه البلاد وفضائل أهلها، فما هو الأفضل بينها؟ وهل قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا: عن عبد الله بن حوالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجندون أجنادا، جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن، قال: فقمت فقلت خر لي يا رسول الله ـ يعني اليمن أم العراق أم الشام ـ قـال: عليك بالشام، فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله ـ مناقض لقوله هذا: وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ ـ يزينون للناس الخروج من المدينة ـ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أخرجه البخاري؟ فأي هذه يفضل العيش فيها بالنسبة للآخرة طبعا من حيث الأجور والحسنات والثبات على الإيمان وغيرها من الفضائل؟ وأيضا أي هذه البلاد الموت والدفن فيها أفضل؟ وقد قرأت قولا للإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ معناه أن مكة كانت مهاجرـ مهجرـ الصالحين الأولين وأن الشام مهاجرـ مهجرـ الصالحين الآخرين يعني أنها خير لأهل آخر الزمان فنرجو منكم التوضيح والإسهاب والتوسع في الأمر حتى نفهم ونستفيد وأعتذر عن الإطالة. ملاحظة: 1ـ لا أتكلم عن القدسية فأنا أعلم أن مكة من حيث القدسية هي الأولى وتليها المدينة ثم بيت المقدس، وإنما أتحدث عن السكن والعيش والموت والدفن. 2ـ هل المقصود بالشام في الأحاديث دمشق وسورية؟ أم بيت المقدس؟ أم كل بلاد الشام؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبلاد الحرمين أفضل من الشام، وقد فضل كثير من أهل العلم السكن بالمدينة والموت بها، فقد قال السندي في حاشيته على ابن ماجه: السكنى بالمدينة أفضل، لما ثبت من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ... وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا. انتهى.
وفي حديث الصحيحين: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
قال المناوي في فيض القدير: تُفتح اليمن ـ أي بلادها ـ فيأتي قوم يَبسُّون من البس، وهو سوق بلين، أي يسوقون دوابهم إلى المدينة، أو معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها: فيتحملون من المدينة إلى اليمن: بأهليهم أي زوجاتهم وأبنائهم: ومن أطاعهم ـ من الناس راحلين إلى اليمن، وهو عطف على أهليهم، والمراد أن قوما ممن يشهد فتحها إذا رأوا سعة عيشها هاجروا إليها ودعوا إلى ذلك غيرهم: والمدينة ـ أي والحال أن الإقامة بالمدينة: خير لهم ـ من اليمن لكونها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات: لو كانوا يعلمون ـ بفضلها وما في الإقامة بها من الفوائد الدينية والعوائد الأخروية حتى يحتقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها، وجواب لو محذوف أي: لو كانوا من العلماء لعلموا أن إقامتهم بالمدينة أولى، وقد تجعل للتمني فلا جواب لها، وكيفما كان ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرا جسيما، وهذه معجزة ظاهرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم لإخباره بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحولون إليها بأهليهم ويفارقون المدينة ولو لازموها لكان خيرا، وقد كان ذلك كله على الترتيب المذكور، وأما رواية تقديم فتح الشام على اليمن فمعناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام، وأفاد فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو إجماع وأن بعض البقاع أفضل من بعض. اهـ مختصرا.
ولا يعارض هذا ما في حديث أجناد الشام، فإن الذهاب في الجهاد أفضل من مجرد السكن بالمدينة ويدل لذلك فعل الصحابة فإنه ذهب كثير منهم إلى الشام للجهاد وفتحوا الشام وغيرها، وقد ذكر شيخ الاسلام أن الأولى بالسكن هو ما كانت الإعانة على طاعة الله تعالى أكثر، وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، فقد قال ـ رحمه الله ـ في الفتاوى: الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك، هذا هو الأصل الجامع، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، والتقوى: هي ما فسرها الله تعالى في قوله: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، إلى قوله: أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ـ وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان، فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل: إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته ولم يكن فيها مجاهدا وإن كان أروح قلبا، وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع، ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء، فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، كما قال تعالى: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ... الآية، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور، وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة، لكنها هناك أشق عليه، فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما، وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم فقالوا: كنا عند البغضاء البعداء وأنتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم جاهلكم ويطعم جائعكم وذلك في ذات الله، وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق، فإن أكثرهم لا يدافعون، بل يكونون على دين الجمهور، وإذا كان كذلك فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره، هذا أمر معلوم بالحس والعقل وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان وقد دلت النصوص على ذلك مثل ما روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، وفي سننه أيضا عن عبد الله بن خولة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ستجندون أجنادا: جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق، فقال ابن خولة: يا رسول الله اختر لي، فقال: عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه وليتق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله ـ وكان الخوالي يقول: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه، وهذان نصان في تفضيل الشام..... وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له كما تقدم، وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله، وهو كما قال سلمان الفارسي، فإن مكة ـ حرسها الله تعالى ـ أشرف البقاع وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها، وقد كانت الشام في زمن موسى ـ عليه السلام ـ قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين وفيها قال تعالى لبني إسرائيل: سأريكم دار الفاسقين ـ فإن كون الأرض دار كفر، أو دار إسلام أو إيمان، أو دار سلم، أو حرب، أو دار طاعة، أو معصية، أو دار المؤمنين، أو الفاسقين، أوصاف عارضة لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم وكذلك بالعكس، وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم الآية، وقال تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه الآية، وقال تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ـ وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه، كما قال تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين، وقال: فاعبده وتوكل عليه، وقال تعالى: عليه توكلت وإليه أنيب، ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته واتباع شريعته ومنهاجه، فأفضل الخلق أعلمهم وأتبعهم، لما جاء به علما وحالا وقولا وعملا وهم أتقى الخلق، وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، وإن كان الأفضل في حق غيره شيئا آخر، ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه فإن تساوت الحسنات والمصالح التي حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما، وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب المساجد الثلاثة علما وإيمانا ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم، فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا، بل يعطي كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو ذلك، وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا: مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات. اهـ.
وأما المقصود بالشام: فهو ما بين الفرات وعريش مصر ويدخل فيه مدينة القدس من باب أولى، لما ثبت في فضلها من النصوص وتدخل فيه دمشق، لما في الحديث: إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام. رواه أبو داود وصححه الألباني.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان عن الشام: وأما حدُها فمن الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية، وأما عرضها فمن جبلَي طيئ من نحو القبلة إلى بحر الروم وما بشأمة ذلك من البلاد، وبها من أمهات المدُن مَنبج وحلب وحماة وحمص ودمشق والبيت المقدس والمعرة، وفي الساحل أنطاكية وطرابلس وعَكا وصور وعسقلان وغير ذلك...... اهـ.
والله أعلم.