عنوان الفتوى : هل تقسيم العلوم وتصنيفها بدعة حسنة ؟
هل تطوير العلوم الفقهية وتجزئة الأبواب الفقهية تعد " بدعة حسنة " ، بالإضافة إلى تقسيم الحديث إلى ضعيف وحسن وصحيح ... إلخ ، فهل تصنيف هذه الأشياء يعد " بدعة حسنة " ؟
الحمد لله
أولا :
تقسيم العلوم وتفريعها والبناء عليها كلها من العمليات العقلية التي تتقدم بتقدم
الزمان ، وزيادة العلوم ، وبلوغ الغاية في التحقيق فيها ، فالعلم تاريخ إنساني
تراكمي .
وقد مثلت عملية جمع المصحف الشريف في عهد الخلافة الراشدة ، ثم تصنيف السنة النبوية
في مصنفات جامعة في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ت101هـ ) النواة الأولى
لبناء العلوم الشرعية ، وتقسيمها ، وتبويب مصنفاتها ، بل وفي الصحائف الأولى التي
كتبت في العهد النبوي وعهد الصحابة والتابعين : ما يدل على بدايات تقسيم الكتب
الفقهية إلى فروع وأبواب ، ومن أشهرها الوثيقة الدستورية التي أمر النبي صلى الله
عليه وسلم بكتابتها بينه وبين يهود المدينة والمهاجرين والأنصار ، وكتاب " الصدقات
" الذي كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولمن أراد الاطلاع عليها بتوسع يمكنه
مراجعة كتاب " تاريخ تدوين السنة " للدكتور حاكم المطيري .
وقد ذكر الذهبي طبقةً من العلماء تبدأ بـمكحول (ت113هـ) ، والزهري (ت124هـ)، وتنتهي
بربيعة بن عبدالرحمن (ت136هـ) – وهم من تلاميذ الصحابة – فقال عنهم : " وشرع الكبار
في تدوين السنن وتأليف الفروع وتصنيف العربية ". فالتأليف - بمعناه الدقيق - بدأ في
آخر القرن الأول .
وهو مخرج على قاعدة " المصالح المرسلة " التي أخذ بها الفقهاء في كل مصلحة حادثة
تظهر حاجة الأمة إليها ، ولا يرد في نصوص الشريعة أمر خاص بها ، فكان هذا الباب أحد
أهم أسباب المرونة في التشريع الإسلامي ، وواحدا من أكثر الموارد الفقهية حاجة
إليها عبر العصور المختلفة .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله – بعد ذكر صور من المصالح المرسلة واشتباهها على بعض
الناس بالبدع - : " جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة
المحدثة . والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ،
فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا
يعود ذلك بقدح على ما نحن فيه .
أما جمع المصحف ، وقصر الناس عليه ، فهو على الحقيقة من هذا الباب ... فحقٌّ ما فعل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر
بتبليغ الشريعة ، والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة ؛ لأنه من قبيل المعقول
المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن ، من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، كذلك لا يتقيد
حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل بالإبطال ، كمسألة
المصحف ، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح .
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة أصل كتابة العلم ، ففي
الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( اكتبوا لأبي شاه )، وذكر أهل السير أنه كان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره ... وأيضا فإن الكتابة
من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به ، إذا تعين لضعف الحفظ ، وخوف اندراس العلم ،
وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر ، لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم
بدعة فإما متجوز ، وإما غير عارف بوضع لفظ البدعة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء
على صحة العمل بالبدع .
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها غير صحيح عند
جماعة من الأصوليين ، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه ، وإذا
ثبت اعتبارها في صورة : ثبت اعتبارها مطلقا ، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في
الفروع "
انتهى باختصار من " الاعتصام " (1/316-319) .
ثانيا :
أما تسمية ذلك بأنه " بدعة حسنة " ففيه تفصيل واحتمالان :
الاحتمال الأول : إذا كان المقصود بإطلاق " البدعة " المصطلح الشرعي الذي ورد ذمه
في الكتاب والسنة ، خاصة في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَكُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ ) رواه مسلم (867) فلا يصح تسميتها بأنها " بدعة حسنة "، فوصف الحُسن
يتناقض مع الذم الثابت بالأدلة الشرعية .
وهذا مقتضى قول من أنكر تقسيم البدعة إلى سيئة وحسنة كما يقول الشيخ ابن عثيمين
رحمه الله:
" إذا ظن ظانٌ أن هذه بدعة ، وأنها حسنة ، فهو مخطئٌ في أحد الوجهين :
إما أنها ليست ببدعة ، وهو يظن أنها بدعة ، كما لو قال : تصنيف السنة وتبويبها هذا
بدعة ، لكنه بدعةٌ حسنة ، أو قال : بناء المدارس بدعة ، لكنه بدعةٌ حسنة ، أو ما
أشبه ذلك .
نقول : أنت أخطأت في تسمية ذلك بدعة ؛ لأن فاعل ذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بنفس
الفعل ، لكن يتقرب إلى الله بكونه وسيلةً إلى تحقيق أمرٍ مشروع ، فتصنيف الكتب
مثلاً وسيلة إلى تقريب السنة وتقريب العلم ، فالمقصود أولاً وآخراً هو السنة
وتقريبها للناس ، وهذا التصنيف وسيلة إلى قربها إلى الناس ، فلا يكون بدعةً شرعاً ؛
لأنك لو سألت المصنف قلت : تصنف هذا الكتاب على أبواب وفصول تتعبد إلى الله بهذا
التصنيف ، بحيث ترى أن من خالفه خالف الشريعة ؟ أو تتقرب إلى الله تعالى بكونه
وسيلةً إلى مقصودٍ شرعي ، وهو : تقريب السنة للأمة ؟ سيقول : إني أقصد الثاني ، لا
أقصد الأول .
وبناءً على هذا نقول : إن تصنيف الكتب ليس ببدعةٍ شرعية .
كذلك أيضاً بناء المدارس للطلاب ، هذا أيضاً ليس موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة
والسلام ، لكنه وسيلةٌ إلى أمرٍ مقصودٍ للشرع ، وهو : القيام بمعونة للطالب ليتفرغ
للعلم ، فهو ليس في ذاته عبادة ، ولكنه وسيلة .
ولهذا تجد الناس يختلفون في بناء المدارس ، بعضهم يبنيها على هذه الكيفية ، وبعضهم
يبنيها على هذه الكيفية ، ولا يرى أحد الطرفين أن الآخر مبتدعٌ ؛ لكونه أتى بها على
وجه مخالف للمدرسة الأخرى ؛ لأن الكل يعتقد أن هذه وسيلة ليست مقصودةً لذاتها ،
إذاً هذا ليس ببدعة ، لكنه وسيلةٌ إلى عملٍ مشروع " انتهى من " فتاوى نور على الدرب
" (4/ 2، بترقيم الشاملة آليا).
ويقول أيضا رحمه الله :
" هذه الأشياء إن فعلها فاعلها على وجه القربة والتعبُّد فإنها بدعة وضلالة ، وإن
كانت من باب الوسائل إلى أمر مشروع كتصنيف العلوم ، وطباعة الكتب ونحو ذلك فهي
مشروعة مشروعية الوسائل " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (17/ 380) .
الاحتمال الثاني :
أما إذا كان المقصود بأنها " بدعة حسنة " على سبيل الاصطلاح الخاص ، بتسمية السنن
الحسنة أو المحدثات الحسنة " بدعة "، اعتبارا بالمعنى اللغوي العام للبدعة ، فلا
بأس في ذلك ولا حرج ، كما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( نِعْمَ
البِدْعَةُ هَذِهِ ) رواه البخاري (2010)، وكما قرر كثير من الفقهاء والعلماء
كالشافعي والعز بن عبدالسلام والنووي وغيرهم تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، ولهذا
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع :
فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/128).
فإذا فُهِم مَوْرِد التقسيم واعتباره ، كما سبق بيانه : تبين أن الخلاف لفظي في
المسألة ، على الأقل ، على مستوى الدرس الاصطلاحي فقط .
يقول أبو شامة المقدسي رحمه الله :
" مما يعد أيضا من البدع الحسنة : التصانيف في جميع العلوم النافعة الشرعية على
اختلاف فنونها ، وتقرير قواعدها ، وتقسيمها ، وتقريرها ، وتعليمها ، وكثرة
التفريعات وفرض المسائل التي لم تقع ، وتحقيق الأجوبة فيها ، وتفسير الكتاب العزيز
، وأخبار النبوة ، والكلام على الأسانيد والمتون ، وتتبع كلام العرب نثره ونظمه ،
وتدوين كل ذلك ، واستخراج علوم جمة منه كالنحو والمعاني والبيان والأوزان ، فذلك
وما شاكله معلومٌ حسنُه ، ظاهرةٌ فائدته ، معين على معرفة أحكام الله تعالى وفهم
معاني كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل ذلك مأمور به ، ولا يلزم من
فعله محذور شرعي " انتهى من " الباعث " (ص/24) .
وللمزيد يرجى النظر في الفتاوى ذوات الأرقام : (205) ، (864) ، (10262) ، (126571).
والله أعلم .