أرشيف المقالات

حكم الوصية بالأضحية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
حكم الوصية بالأضحية

مشروعية الوصية ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، ولكنها مشروطة بأن تكون ضمن إطار تعاليم الشريعة، والوصية بالأضحية أو عشاء للوالدين أو حج غير الفريضة لم تكن من الأعمال المأذون بها شرعاً وليس كل ما يقدم للأموات يكون مقبولاً ويصلهم ثوابه، وليس كل وصية يجوز تنفيذها، ولا شك أن كل ما ينفع المؤمن بعد موته ويصل إليه ثوابه من عمل غيره، ويعتبر امتداداً لعمله كل هذا محصور وقد وردت فيه نصوص تبيح فعله، ويتمثل في قضاء حج فريضة الإسلام لمن مات قبل أن يتمكن من أدائه، وصيام النذر أو أيام من رمضان غير أيام المرض، وما عداه فلا يجوز أن يقدم للأموات إلا الدعاء والاستغفار والصدقة ولم تكن الأضحية منها، يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾ [لقمان: 33] ويقول تبارك وتعالى: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 38 - 41].
ولا ريب أن من بطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره.
 
وإنما يتمسك المجيزون للوصية بالأضحية بحديث ضعيف أخرجه الترمذي عن حنش قال: "رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين فقلت له ما هذا؟ فقال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه" فلو صح هذا الأثر لجاز للموصي بالأضحية وجاز تنفيذ الوصية، ولكن الترمذي الذي أخرجه قال عنه أنه غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك وحنش تكلم فيه غير واحد أ هـ.، وقال ابن حبان كان حنش كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي بأشياء لا يشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به.
أ هـ.[1]

قلت: وهذا الحديث مضطرب المتن والإسناد بدليل ما أورده شارح جامع الترمذي ففي هذه الرواية أن حنش رأى علياً يضحي بكبشين واحد عنه والآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية للحاكم أن حنش رأى علياً يضحي بكبشين له وكبشين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال رواية الحاكم هذه مخالفة لرواية الترمذي "وقال: قلت: لم أجد في التضحية عن الميت منفرداً حديثاً مرفوعاً صحيحًا، وأما حديث الباب فضعيف كما عرفت، فإذا ضحى الرجل عن الميت منفرداً فالاحتياط أن يتصدق بها كلها والله أعلم" أ هـ[2].
 
جاء في "الاختيارات الفقهية" أن شيخ الإسلام ابن تيمية أفتى: فيمن أوصى بمال في ختمات وقصده التقرب إلى الله بأنه ينبغي صرف هذا المال إلى الصدقة به على الفقراء والمحاويج أهـ.

ويقاس على هذه الفتوى من أوصى بمال في حج أو أضاحي تذبح عنه وكان قد حج عن نفسه، فإن الصدقة بهذا المال على الفقراء والمحاويج أفضل من صرفه في الحج والأضاحي، الذي يقول أكثر العلماء بعدم جواز ذلك.

قال الشيخ/ إبراهيم بن صالح الخصيري القاضي بالمحكمة الكبرى في الرياض:
وهنا تنبيه لطيف هو: أن كثيراً من الناس في كبره يوصي أنه إذا مات أن يخصص من ماله شيء للأضحية عنه وينسى مصارف شرعية للأمة، والناس أحوج للمال منهم للأضحية، كالدعوة، والبر إلى الفقراء ومصرف الجهاد في سبيل الله.

فالمهم أن يوصي بما ينفع به ماله، أما أن يجعلها عادة كآبائه الأولين أو عادة قديمة فهذا أمر غير محبب...
اهـ.
 
ويتضح هذا الحكم باستجلاء أقضية النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتاواه وأوقاف الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يرد للأضحية عن الأموات أي ذكر بالرغم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته أنواع الصدقات عن الموتى قد أجملها فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن مما يلحق المؤمن من عمله.
وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورثه ومسجداً بناه وبيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"[3].
 
فلو كانت الأضحية عن الميت مشروعة أو أنها مستحبة أو أن ثوابها يصل إلى الميت لعدّها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما عدّ من طرق الخير والبر وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عما يمكن تقديمه لوالديه بعد وفاتهما، كما في حديث مالك بن ربيعة الساعدي قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله أن أبوي قد ماتا، فهل بقي عليّ من بر أبوي أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وانفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما من بعدهما" رواه أبو داود وزاد في رواية لابن حبان فقال الرجل: "ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه، قال: نعم فاعمل به" ففي هذا الحديث استكمل دروب الإحسان إلى الأموات حيث أرشده الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - إلى أفضل ما يقدمه ابن لوالديه وبدأ بالأهم قبل المهم ثم تدرج به إلى آخر ما يمكن تقديمه ولم يذكر الأضحية بين تلك الأعمال الصالحة بالرغم من شموله لنواحي البر ومن بينهما إنفاذ عهدهما ومنها الوصية الموافقة لبنود الشريعة والخالية من الحيف والجور، والابتداع، وروى البخاري ومسلم: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر لم يكسب مالاً أفضل منها فأراد أن يتصدق بها واستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يُحبِّس أصلها، ويتصدق بريعها (أي جعلها وقفاً) على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقا غير متمول" ولم يذكر من مصارفها ذبح الأضاحي عنه بعد موته.

ولما نزل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92].
جاء أبو طلحة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان من أكثر الصحابة مالاً وأنفس ماله حديقة بيرحاء فقال: يا رسول، أن أحب أموالي إليّ بيرحاء وأنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله: بخ بخ ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة بين ثلاثة من أقاربه وبني عمه فأرشده إلى توزيع غلتها على الفقراء من أقاربه ولم يأمره بأن يجعل له في هذه الحديقة العظمية أضحية تذبح له بعد موته، ولو كانت سنة أو أنها أفضل من الصدقة لأمره بها وأرشده إليها.

فمن كان من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فليقتف أثره وليتأس به، وهذا هديه بيّن واضح، وليست الأضحية عن الأموات من هديه؛ وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.



[1] عون المعبود ج7، ص488.



[2] تحفة الأحوذي ج5 ص80.


[3] أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣