عنوان الفتوى : صديقه عنده إشكال في بعض نصوص من الوحي يظنها متعارضة متناقضة
كنت أتحدث مع أحد أصدقائي فقال لي إن هناك أشياء محيّرة ومتناقضة في القرآن والسنَّة ! من ضمنها : - ورد في السنَّة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خير الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) الحديث ، ثم ذُكر في أحاديث أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس ، وأنه كان يصوم حتى يقال لا يُفطر وكان يُفطر حتى يُقال لا يصوم ... الخ ، فمن نتبع ؟ هل نتبع نبي الله داود أم نأتمر بالآية الكريمة قال تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ؟ . - قال تعالى ( إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) ثم نرى أن القرآن نفسه يذكر أن بني إسرائيل قتلوا الكثير من الأنبياء ، فأين النصر والحماية ؟ . - نرى في القرآن آيات عقوبات مثل قوله تعالى ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ) وأحاديث من هذا الباب أيضاً مثل ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) ، ( ... نساء لا يرحن رائحة الجنة ) ، ثم نرى علماء يأتون ويقولون : إن كل مسلم سيدخل الجنة لا محالة ، فعلى أيّ وجه يُحمل هذا الكلام ؟ . - هناك الكثير من التناقضات في الأحاديث النبوية ، فعلى سبيل المثال حديث الصلاة الإبراهيمية ورد بصيغ وألفاظ متنوعة ، فكيف نعرف الصحيح من هذه الروايات كلها ؟ . - بعض الصحابة مثل ابن عباس وصف عرش الرحمن بأنه مصنوع من الياقوت الأحمر ، فكيف استطاع أن يأتي بهذا الوصف وهو لم يره ولم يرد حديث ينص على ذلك ؟ .
الحمد لله.
أولاً:
اعلم – أخانا السائل – أنه ليس ثمة تعارض أو تناقض في حقيقة الأمر بين نصوص الوحي من القرآن والسنَّة ، وإنما هو قصور في العلم أو قصور في الفهم ، وتجد تفصيل ذلك في جوابنا على السؤال رقم ( 104825 ) فانظره فهو مهم .
ثانياً:
للتدليل على ما قلناه آنفاً : نبيِّن لك أنه ليس ثمة إشكال – بفضل الله – فيما ذكرتَه عن ذاك الصديق بين نصوص الوحي بعضها مع بعض ، وهذا بيانٌ مُبين لكل مسألة ذكرتَها :
1. لا يلزم من بيان فضل العمل والعبادة للناس أن يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك إما تخفيفاً على الأمة خشية المشقة عليهم في القيام بها لو أنه باشرها وفعلها ؛ وقد يكون تركه للعبادة التي يخبر بفضلها ولا يفعلها من أجل اشتغاله بما هو أهم منها وأفضل في حقه صلى الله عليه وسلم ، والعبرة في قيام المسلمين بالعبادة والطاعة بما يحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ، ومن أمثلة ذلك : بيانه صلى الله عليه وسلم لفضل القيام بشعيرة رفع الأذان مع عدم قيامه هو به ، وبيانه لفضل العمرة في رمضان مع أنه لم يعتمر فيه ، وهكذا المثال الذي ذكره الأخ السائل وهو بيان فضل صيام داود عليه السلام مع عدم قيامه به .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : " والأذان من أفضل الأعمال ، وهو أفضل من الإمامة ، يعني : أن مرتبة المؤذن في الأجر أفضل من مرتبة الإمام ؛ لأن المؤذن يعلن لتعظيم الله وتوحيد الله والشهادة للرسول بالرسالة ، وكذلك أيضا يدعو الناس إلى الصلاة والفلاح في اليوم والليلة خمس مرات أو أكثر ، والإمام لا يحصل منه ذلك ، والمؤذن لا يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة ، ولهذا كان الأذان مرتبته في الشرع أعلى من مرتبة الإمامة .
فإن قال قائل : إذا كان كذلك لماذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذن ولا الخلفاء الراشدون ؟ أجاب العلماء عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كانوا مشغولين بمصالح العباد ؛ لأنهم خلفاء أئمة يدبرون أمر الأمة ، والأذان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالأذان في وقتنا الآن إذا أراد الإنسان أن يؤذن ليس عليه سوى أن ينظر إلى الساعة ويعرف الوقت حلَّ أو لم يحل ، لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يراقبون الشمس ويتابعون الظل حتى يعرفوا أن الشمس قد زالت ، وكذلك أيضا يراقبونها حتى يعرفوا أنها غربت ، ثم يراقبون الشفق ، ثم يراقبون الفجر ، ففيه صعوبة عظيمة ؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لا يتولون الأذان ، لا لأن فضله أقل من الإمامة ولكن لأنهم مشغولون بما هم فيه عن الأذان ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته بأن الناس ( لو يعلمون ما في النداء ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) " انتهى من " شرح رياض الصالحين " ( 5 / 29 ، 30 ) .
وهكذا الأمر في عدم اعتماره صلى الله عليه وسلم في رمضان مع بيانه لفضل الاعتمار فيه وأنه يعدل حجة – انظر جواب السؤال رقم ( 104926 ) فماذا قال العلماء في ذلك ؟ .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " وقد يُقال : إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشتغِل فى رمضان مِن العبادات بما هو أهمُّ مِن العُمْرة ، ولم يكن يُمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبينَ العُمرة ، فأخَّر العُمرة إلى أشهر الحج ووفَّر نفسه على تلك العبادات فى رمضانَ ، مع ما فى ترك ذلك من الرحمة بأُمته والرأفة بهم ، فإنه لو اعتمرَ فى رمضان لبادرت الأُمة إلى ذلك ، وكان يشُقُّ عليها الجمعُ بين العُمْرةِ والصومِ ، ورُبما لا تسمح أكثرُ النفوس بالفطر فى هذه العبادة حرصاً على تحصيل العُمْرة وصومِ رمضان ، فتحصُل المشقةُ ، فأخَّرها إلى أشهر الحج ، وقد كان يترُك كثيراً من العمل وهو يُحب أن يعمله ؛ خشية المشقة عليهم " انتهى من " زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 2 / 96 ) .
وهكذا يقال في صيامه وقيامه صلى الله عليه .
قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله - : " صيامه في السنَة والشهر على أنواع ، ولم يكن يصوم الدهر ، ولا يقوم الليل كله ، وإن كان له قدرة على ذلك ؛ لئلا يقتدى به فيشق على أمته ، وإنما كان يسلك الوسط ، ويصوم حتى يظن أنه لا يفطر ويفطر حتى يظن أنه لا يصوم ، ويقوم حتى يظن أنه لا ينام وينام حتى يظن أنه لا يقوم " انتهى من " الفتاوى الفقهية الكبرى " ( 2 / 53 ).
ثالثاً:
وأما قوله تعالى ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ) وظن صديقك أنه يتعارض مع قتل بعض
الرسل عليهم الصلاة والسلام : فمما لا يسلم له ؛ لأن المقصود بالآية نصرة من يقاتل
منهم – عليهم السلام – في معارك مع أعدائهم .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - : " وقد حقق العلماء أن غلبة
الأنبياء على قسمين : غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميعهم ، وغلبة بالسيف
والسنان وهي ثابتة لخصوص الذين أُمروا منهم بالقتال في سبيل الله ؛ لأن من لم يؤمر
بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب ؛ لأنه لم يغالب في شيء ، وتصريحه تعالى بأنه كتب أن
رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف - كما بينَّا أن ذلك هو معنى الغلبة في
القرآن - وشامل أيضا لغلبتهم بالحجة والبيان ، فهو مبيِّن أن نصر الرسل المذكور في
قوله ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ) الآية غافر/ 51 ، وفي قوله ( وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ ) الصافات/ 171 ، 172 أنه نصرُ غلبة بالسيف والسنان للذين أُمروا
منهم بالجهاد ؛ لأن الغلبة التي بين أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر ؛ لأنها نصر
خاص ، والغلبة لغة القهر ، والنصر لغة إعانة المظلوم ، فيجب بيان هذا الأعم بذلك
الأخص ... " انتهى من " أضواء البيان " ( 1 / 211 ، 212 ) .
رابعاً:
وأما المسألة الثالثة : فمعالمها واضحة في اعتقاد أهل السنَّة والجماعة وليس فيها
إشكال عند من يعمل بالنصوص الواردة في الشرع جميعها ، وملخص ذلك : أن من الذنوب
والمعاصي ما قد توعد الله تعالى فاعلها من المسلمين بأنه " لا يدخل الجنة " أو أنه
" لا يراح رائحتها " أو أن " الجنة عليه حرام " أو أنه " خالد في جهنم " وغير ذلك
من ألفاظ الوعيد التي ظاهرها أنه لا يدخل الجنة البتة ، بل هو خالد في نار جهنم ،
ولكن هذا الظاهر قطعاً ليس هو المراد ؛ فقد بينت النصوص الأخرى أن هذه الذنوب قابلة
للمغفرة يوم القيامة وأنها لا تخلِّد بذاتها أصحابها في النار ، وأن ألفاظ الوعيد
السابق ذِكرها لا تعني الخلود الأبدي في النار ولا التحريم الأبدي للجنة ، ومن هنا
قال العلماء " الخلود خلودان : خلود للكفار وهو أبدي ، وخلود للمسلمين وهو طول
المكث " ، وقالوا " : تحريم الجنة تحريمان : تحريم أبدي على الكفار ، وتحريم مؤقت
للمسلمين أصحاب الذنوب والمعاصي " ، وهذا كله في حال أن يُعاقب الله تعالى أصحاب
الذنوب عليها ، وإلا فإنه قد يغفرها لهم كما جاء في نصٍّ محكم من القرآن ، وهو قوله
تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَن يَشَاءُ ) النساء/ 48 و 116 ، وبه يُعلم أنه لا إشكال فيما ذُكر من نصوص
الوعيد بفضل الله وتوفيقه .
قال ابن خزيمة – رحمه الله - : " كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو
على شريطة أي : إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل فلا يعذب على ارتكاب
تلك الخطيئة ؛ إذ الله عز وجل قد خبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر ما دون
الشرك من الذنوب في قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) " انتهى من " كتاب التوحيد " ( 2 /
869 ) .
وانظر – للمزيد – أجوبة الأسئلة (
31174 ) و (
14627 ) و (
163938 ) ففيها
بيان معنى النصوص الواردة في سؤالك وغيرها .
خامساً:
أما المسألة الرابعة وهي الموقف من اختلاف الروايات في العبادة الواحدة كالصلاة
الإبراهيمية : فقد سبق بيانه في جواب السؤال رقم (
140759 ) ، فراجعه
.
سادساً:
وأما المسألة الخامسة وهي قوله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العرش ياقوتة حمراء :
فهذا أولاً لم يرو عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما وقفنا عليه من روايات ، وثانياً
: لم يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه ولا عن صحابي ، وما صحَّ منه عن
تابعي فليس بحجة في دين الله تعالى .
روى أبو الشيخ في كتابه " العظمة " ( 2 / 581 ) عن إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت
سعد الطائي يقول : " العرش ياقوتة حمراء " . انتهى .
وروى ابن أبي شيبة في كتابه
" العرش وما روي فيه " ( ص 413 ) عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ :
أُخْبِرْتُ أَنَّ الْعَرْشَ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ .
انتهى
قال الدكتور محمد بن خليفة التميمي – وفقه الله – بعد أن ذكر للأثر طرقاً متعددة -
: " وجميع هذه الطرق مقطوعة الإسناد ، ولم يثبت شيء من ذلك فيما صح عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أما المقاطيع - يعني : أقوال التابعين - : فليست حجة
في مسائل عقدية ، ولا يثبت بها حكم عقدي ، والله أعلم " . انتهى .
ونرجو أن نكون قد وفقنا في
بيان ما استشكله صديقك من دين الله تعالى ، ونرجو أن يكون ذلك بداية طيبة له ليكون
مدافعاً عن دين الله تعالى حامياً لحماه ، وليعلم أن أعداء الإسلام ما فتئوا يبحثون
عما يظنونه مجالاً للطعن في نصوص الشرع ، ثم لا يلبث أحدهم أن يرتد عن مطلبه خاسئا
حسيرا ، لم يظفر منه بشيء ، ومن كان منهم عاقلا منصفا ، أداه بحثه إلى اليقين بما
في هذا الدين من الحق والنور المبين .
نسأل الله تعالى أن يوفقكما للعلم النافع والعمل الصالح .
والله أعلم