عنوان الفتوى : الحكمة من إهباط آدم عليه السلام إلى الأرض مع كونه تاب واستغفر
في قصة آدم عليه الصلاة والسلام: أذنب آدم ذنبا ثم تاب ـ ولكن الله أنزله من النعمة مع أنه استغفر، فهل الإنسان إن أذنب ذنباً واستغفر فإن الله مزيل عنه النعمة التي كان فيها حتى ولو استغفر، مع أن الله رحمن رحيم وتواب غفور وأنه يحب لعباده الجنة والنعمة ولا يحب لهم النقمة إنهم استغفروه، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون؟ وهل يعذبنا رب العزة الرحمن الرحيم؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى عليم حكيم، وقد خلق سبحانه آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض فينظر كيف يعملون، وقدر سبحانه أن يكون أكل آدم من الشجرة سبب إهباطه من الأرض، ولم يسكنه في الأرض ابتداء لتظهر له عداوة إبليس فيأخذ حذره منه، وقد كان إهباط آدم وذريته إلى الأرض من أكبر نعم الله عليه وعلى ذريته، فإن لله في ذلك حكما عظيمة لم تكن لتتحقق لو بقي آدم في الجنة، وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى طرف من هذه الحكم فقال: فَإِن الله سُبْحَانَهُ لما أهبط آدم أَبَا الْبشر من الْجنَّة لما لَهُ فِي ذَلِك من الحكم الَّتِي تعجز الْعُقُول عَن مَعْرفَتهَا والألسن عَن صفتهَا فَكَانَ إهباطه مِنْهَا عين كَمَاله ليعود إليها على أحسن أحواله فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أن يذيقه وَولده من نصب الدُّنْيَا وغمومها وهمومها وأوصابهَا مَا يعظم بِهِ عِنْدهم مِقْدَار دُخُولهمْ إليها فِي الدَّار الآخرة، فَإِن الضِّدّ يظْهر حسنه الضِّدّ، وَلَو تربوا فِي دَار النَّعيم لم يعرفوا قدرهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أراد أَمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم، وَلَيْسَت الْجنَّة دَار تَكْلِيف فأهبطهم إلى الأرض وعرضهم بذلك لأفضل الثَّوَاب الَّذِي لم يكن لينال بِدُونِ الأمر وَالنَّهْي، وأيضا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أن يتَّخذ مِنْهُم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فخلى بَينهم وَبَين أعدائه وامتحنهم بهم فَلَمَّا آثروه وبذلوا نُفُوسهم وأموالهم فِي مرضاته ومحابه نالوا من محبته ورضوانه والقرب مِنْهُ مَا لم يكن لينال بِدُونِ ذَلِك أصلا... وأيضا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الأسماء الْحسنى، فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم الْعَفو الْحَلِيم الْخَافِض الرافع الْمعز المذل المحيي المميت الْوَارِث الصبور، وَلَا بُد من ظُهُور آثَار هَذِه الأسماء فاقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن ينزل آدم وَذريته دَارا يظْهر عَلَيْهِم فِيهَا أثر أسمائه الحسنى فَيغْفر فِيهَا لمن يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء ويخفض من يَشَاء وَيرْفَع من يَشَاء ويعز من يَشَاء ويذل من يَشَاء وينتقم مِمَّن يَشَاء وَيُعْطى وَيمْنَع ويبسط إلى غير ذَلِك من ظُهُور أثر أسمائه وَصِفَاته... وأيضا فإنه سُبْحَانَهُ لما كَانَ يحب الصابرين وَيُحب الْمُحْسِنِينَ وَيُحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا وَيُحب التوابين وَيُحب المتطهرين وَيُحب الشَّاكِرِينَ وَكَانَت محبته أعلى أنواع الكرامات اقْتَضَت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دَارا يأْتونَ فِيهَا بِهَذِهِ الصِّفَات الَّتِي ينالون بهَا أَعلَى الكرامات من محبته فَكَانَ إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عَلَيْهِم: وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل العظيم.
هذا طرف يسير مما ذكره المحقق ابن القيم ـ رحمه الله ـ في أول مفتاح دار السعادة مبينا حكمة إهباط آدم إلى الأرض وأنه من أعظم نعم الله عليه وعلى ذريته ليرجعوا إلى الجنة على حال أكمل بكثير من الحال الأولى، فليس في إهباط آدم إلى الأرض ما يعارض كون الله تعالى برا رحيما عفوا غفورا ولا ما يعارض قبوله توبة عباده ومحو آثار الذنوب عنهم بتوبتهم.
والله أعلم.