عنوان الفتوى : قوله تعالى ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ووجود أصحاب عاهات وإعاقات
عندما يطلب الله تعالى منَّا أن نبحث عن نقائص في خلقه فهو يحثنا على النظر وإعادة النظر ؛لكي نقدِّر تماما كيف خلق الخلق بهذه الكيفية المذهلة ، وسؤالي هو : كيف يمكن فهم هذه الآية فهما صحيحاً ( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ) الملك/ 3 ؟ وأنا أود أن أعرف كيف أرد عندما يسأل كافر : أليست العيوب الخلقية والتشوهات التي لدى الناس نقائص ؟ وأنا أعرف أن هناك حكمة مِن خلق الله للناس على هذا النحو ، لكن في ضوء الآية التي تدفع الفرد للبحث عن التفاوت في الخلق كيف يمكننا النظر إلى هذه العيوب الخَلقية على أنها ليست تفاوتاً ؟
الحمد لله
أولاً :
إن مما يعتقده المسلم في ربِّه تعالى أنه خلَق الخلْق فأحسَنه وأتقنه ، وقد مدح
الله تعالى نفسه بذلك في مواضع عدة ، منها قول تعالى ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة/ 7 ، وقوله سبحانه ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
) غافر/ 64 ، وقوله عزّ وجل ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )
النمل/ 88 ، وقوله تعالى ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) ق/ 6 .
ثانياً:
الآيات في سورة الملك والتي ذكر الأخ السائل أنها موضع إشكال مع ما يُرى في خلق
الله للبشر من أصحاب العاهات والإعاقات ، هي قوله عز وجل ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) الملك/ 3 ، 4 .
قال ابن كثير – رحمه الله - : " ومعنى الآية : إنك لو كررت البصر مهما كررتَ لانقلب
إليك ، أي : لرجع إليك البصر ( خَاسِئًا ) عن أن يَرى عيباً أو خللاً ( وَهُوَ
حَسِيرٌ ) أي : كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً " انتهى من
"تفسير ابن كثير" ( 8 / 177 ).
فهل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من عدم وجود العيب والخلل في خلقه يتعارض مع
ما يُرى من البشر ممن خلقهم الله تعالى بإعاقة أو عاهة أو نقص في الخلقة ؟! .
والجواب على هذا من وجهين :
الأول : أن يقال إن الآية في خلق السموات لا غير ، وعليه : فليس فيها إشكال .
قال ابن المظفَّر الرازي – رحمه الله - : " قال – أي : الثعلبي المفسِّر - في قوله
تعالى ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) " أي : من اعوجاج واختلاف " .
قلت : لو اقتصرنا على هذا القدر كان لقائل أن يقول : أليس في خلق الجبال والأشجار
والأرضين اعوجاج واختلاف وتفاوت ، وكذلك في خلق الناس ، وخلق القبيح والحسن ،
والكفر والإيمان ؟ .
فالجواب : أنه من العام الذي أريد به الخاص ، وهو خلق السماوات السبع لا غير "
انتهى من " مباحث التفسير لابن المظفر الرازي " - وهو استدراكات وتعليقات على تفسير
الكشف والبيان للثعلبي - ( ص 305 ) .
وقال القرطبي – رحمه الله - : " وقيلَ : المُرَاد بِذلكَ السَّمواتُ خاصَّةً ، أَيْ
: ما تَرى في خَلْقِ السَّمواتِ مِن عَيْبٍ " انتهى من " تفسير القرطبي " ( 18 /
208 ) .
الثاني : أن يقال إن الآية عامَّة وتشمل جميع خلق الله تعالى من النبات والحيوان
والإنسان ، وأن خلق الله تعالى كلَّه متقن وأنه ليس فيه خلل وعيب من حيث الأصل ،
وأما ما يوجد في بعضه من خلل وعيوب فهو أمر عدمي لمشيئة الله تعالى أن لا يكون
المحل قابلاً لكمال الخلقة .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " ومما ينبغي أن يُعلم أن الأشياء المكوَّنة من
موادها شيئاً فشيئا كالنبات والحيوان إما أن يَعرض لها النقص ، الذي هو شر ، في
ابتدائها ، أو بعد تكونها ، فالأول : هو بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها
ردية المزاج ناقصة الاستعداد فيقع الشر فيها ، والنقص في خلقها بذلك السبب ، وليس
ذلك بأن الفاعل حرَمه وأذهب عنه أمراً وجوديّاً به كماله ، بل لأن المنفعل لم يقبل
الكمال والتمام ، وعدم قبوله أمر عدمي ليس بالفاعل ، وأما الذي بالفاعل فهو الخير
الوجودي الذي يتقبل به كماله وتمامه ، ونقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده
بسبب الكمال ، فبقي على العدم الأصلي ، وبهذا يفهم سر قوله تعالى ( مَا تَرَى فِي
خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) فإن ما خلقه فهو أمر وجودي به كمال المخلوق
وتمامه ، وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله ، وعدم القبول ليس أمراً مخلوقاً يتعلق
بفعل الفاعل ، فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت والتفاوت إنما حصل بسبب هذا الخلق ،
فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعداداً فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق ، لا من نفس
الخلق ، فتأمله ، والذي إلى الرب سبحانه هو الخلق ، وأما العدم فليس هو بفاعل له ،
فإذا لم يكمل في مادة الجنين في الرحم ما يقتضي كماله وسلامة أعضائه واعتدالها :
حصل فيه التفاوت ، وكذلك النبات " انتهى من " شفاء العليل " ( ص 182 ، 183 ) .
ثالثاً:
الله تعالى حكيم في أفعاله ، فله في خلق النقص والآفات والأسقام حكَماً جليلة .
قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق – حفظه الله - : " حكمة الله في خلق الآفة والنقص
:
خلق الله كل شيء سبحانه وتعالى ، وقد خلق الآفة والشر ، وجعل النقص في بعض مخلوقاته
لحكَم عظيمة ، ومن ذلك :
1. العقوبة على المعاصي ، كما قال تعالى ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم/ 41 ، والفسـاد هنا هو الآفة والشر الذي يعاقب
الله به عباده ، كالريح العقيم المدمرة والبركان الثائر والأمراض والأسقام والقحط
والطوفان ، ونحو ذلك .
2. أن يَعلم الناس قدرة الله عليهم ، وأنه هو الذي يملك نفعهم وضرهـم ، كما قال
تعالى (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فاطر/ 2
.
3. أن يَعلم الناس قدرة الله على خلق الخير والشر ، وعلى أنه سبحانه يجازي بالإحسان
إحساناً ، وأنه سبحانه يعاقب على الإساءة ، قال تعالى ( نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ )
الحِجر/ 49 ، 50 .
فالله الذي خلق الجنة وجمع فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، بل ذخر فيها ما
لا عين رأت من نعيم وما لا أذن سمعت وما لم يخطر على قلب بشر : فإنه سبحانه وتعالى
خلق الجحيم ، وجعل فيها أنواع الشرور والآلام والأحزان والعذاب والنكال فوق ما
تتصوره العقول ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلا يُوثِقُ
وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) الفجر/ 25 ، 26 .
4. أن يتذكر من يعافيه الله نعمة ربه وإحسانه فيشكره على ذلك ، ويعلم فضل الله عليه
وإحسانه إليه أن لم يصبه بما أصاب غيره .
5. أن يجعل الله لمن يصيب منه باباً عظيماً للظفر بمرضاته والفوز بجناته وتخفيف
ذنوبه ورفع درجاته .
وحكمة الله من خلق الشر والآفة والنقص حكمة عظيمة ، فالله هو المحمود على كل صفاته
، وأفعاله ، وأنعامه " انتهى من " المشوَّق في أحكام المعوَّق " ( ص 4 ) .
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |