عنوان الفتوى : التورية بين الهندسة اللفظية والرخصة الشرعية
بعد التحية:
كنت أريد معرفة حكم نية الكذب بمعنى أنه إذا سألني أبي مثلا هل ذهبت إلى الجامعة وكان يقصد أن يسألني هل ذهبت إلى الجامعة أمس فكان الرد مني أني نعم ذهبت ولكن نيتي كانت علي أنه الأسبوع الماضي فهل يعتبر ذلك كذبا أم أنه جائز؟ وجزاكم الله خيرا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا الأسلوب هو ما يعرف بالتورية، وهو أن يذكر المتكلم لفظا يحتمل معنيين بحيث يقصد المعنى البعيد في حين أن المخاطب يقصد المعنى القريب.
كأن يسأل إنسان آخر فيقول له : من أنت ؟ فيجيبه : أنا عبدالله مع أن اسمه محمد مثلا، ويقصد أنه عبد من عباد الله في حين أن سائله يفهم من كلامه أن اسمه عبدالله.
وقد تجوز التورية عند وجود مصلحة شرعية تقتضيها تفاديا عن الكذب المحرم.
ولكنها لا تجوز إذا اشتملت على الخديعة، وأكل أموال الناس يالباطل، كأن يستعملها الموظفون مع مدرائهم فيتوصلو بها إلى حقوق ليست لهم، أو يتنصلوا بها من مسؤوليات عليهم، أو يتهربوا بها من أخطاء وأضرار وقعوا فيها، أو يتوصلوا بها إلى امتيازات لا يستحقونها، فيقع بذلك من الشر والفساد ما لا يعلمه إلا الله.
ويتحول المجتمع إلى الهندسة اللفظية التي تستباح بها المحارم، وتهدر بها الحقوق والواجبات، ويفقد كل واحد ثقته في أخيه، ويسوء الظن، ويصبح التهمة والتخون هما الأصل.
كما أنه لا يجوز كذلك لطالب أو طالبة أن يخدعا والديهما بمثل هذه الألفاظ، فيسأل الوالد ابنته: هل ذهبت إلى الجامعة، ويقصد يومه هذا: فتجيبه نعم: وتقصد يوما ما. فتصبح البنت خائنة لأبيها ومضللة له.
إنما تجوز التورية إذا أريد أن يدفع بها ما ليس بحق كأن يأتي إلى الإنسان ضيف في وقت لا يحب أن يقابل الناس فيه، فيأمر امرأته أن تقول له: ابحث عنه في المسجد، فيظن أنه هناك مثلا.
أما التوسع في ذلك فلا يجوز.
يقول الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر عن التورية وضوابطها :
تحدث العلماء عما يسمى بالتعريض والتورية، ومعناهما أن يطلق الإنسان لفظا يحتمل معنيين، يكون ظاهرا في واحد منهما ويريد هو المعنى الآخر، وهو نوع من الكذب فيه تغرير وخداع، يقول النووي فى كتابه “الأذكار” ص 380 في بيان حكمه :
قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب. أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض. فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراما، وهذا ضابط الباب. ثم ذكر للتنفير منه حديثا رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف. لكن سكت عنه أبو داود فلم يحكم بضعفه فيقتضى أن يكون حسنا عنده، وهذا الحديث عن سفيان بن أسيد-بفتح الهمزة - رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “كبرت خيانة أن تحدِّث أخاك حديثا هو لك به مصدِّق وأنت به كاذب”.
ثم ذكر مثالا للتعريض المباح قاله النخعي رحمه الله، وهو إذا بلغ الرجل عنك شىء قلته فقل : الله يعلم ما قلت من ذلك من شىء فيتوهم السامع النفي المأخوذ من قوله : ما قلت من ذلك من شىء ومقصودك أن الله يعلم ما قلته وقال النخعي أيضا : لا تقل لابنك : أشترى لك سكرا، بل قل. أرأيت لو اشتريت لك سكرا؟ وكان النخعى إذا طلبه رجل قال للجارية : قولى له : اطلبه فى المسجد، وكان الشعبي يخط دائرة ويقول للجارية : إذا طلبني أحد فضعي إصبعك فى الدائرة وقولي : ليس هو هاهنا ، ومثل هذا قول الناس فى العادة لمن دعاه إلى الطعام : أنا على نية، موهما أنه صائم، ومقصوده على نية ترك الأكل. يقول النووي :
لو حلف على شىء من هذا وورَّى فى يمينه لم يحنث، سواء حلف بالله تعالى أو حلف بالطلاق أو غيره، فلا يقع عليه طلاق ولا غيره، وهذا إذا لم يحلِّفه القاضي في دعوى، فإن حلفه القاضي في دعوى فالاعتبار بنية القاضي إذا حلفه بالله تعالى، فإن حلفه بالطلاق فالاعتبار بنية الحالف، لأنه لا يجوز للقاضي تحليفه بالطلاق، فهو كغيره من الناس .
والله أعلم .